بغداد- العراق اليوم: مهند الساعدي بعد الاربعين، احسب أن وعيي بذاتي صار أعمق، وبدأت اقتنع شيئاً فشيئاً انني اعرف نفسي كلها، عدا دموعي والبكاء . لا زلتُ اجهل فوضى الدموع، ولا زالت تثير استغرابي، وعدم قدرتي على تحليلها تحليلاً علمياً ونفسياً نهائياً . تنهمل دموعي بلا مواعيد ولا توقعات، وابكي بسخاء في لحظة عابرة لا تستحق البكاء، واقف عصي الدمع في اشد لحظات المأساة وانهيار العالم من حولي. في الطفولة كنت ابكي حين اشعر بالإهانة او الحرمان او الظلم، لكنني حين كبرتُ صرت لا ابكي في هذه المواقف أبداً، بل الغريب انها تثير صلابتي حتى كأنها انقلبت الى ضدها تماماً . ابكي بعد الاربعين عند الغدر، والوداع، والذكريات والنهايات . أواجه موت الأحباب بالصمت والتأمل، وحين يضج الناس من حولي بالبكاء على ميت من الاحبة، أغط أنا في صمت اشبه بصمت الفضاء البعيد الذي نسبح فيه. لكن الذكريات المفاجئة التي تخطف امامي فجأة، وروائح الماضي البعيد وبعض مآسيه ومحنه التي عشتها تثير بكائي . لا تهطل دموعي كما تهطل في النهايات، فانا بكاء أسيف سخي الدمع عند كل نهاية. ابكي في الوداع، والفراق، والطلاق، وأبكي عند نهاية كل دولة، وسقوط كل نظام، وعلى أطلال المدن التي دمرتها الحروب . لم يسقط دكتاتور الا وبكيت، ولَم يفرح شعب الا وبكيت انا. حين مات والدي عام ٢٠١٣ لم ابك كثيراً، لكنني بقيت أياماً اتذكر سيرته الحلوة ورحمته وإنسانيته وظرافته ونبله رحمه الله . وحين ماتت شقيقتي الكبرى (هدى) في السادسة والثلاثين مع عمرها في حادث سيارة مروع علمت بموتها بعد ثلاثة ايّام فغلبت صدمتي ودهشتي دموعي التي بالكاد هطلت عليها مرة واحدة . قتلت هدى في حادث سيارة في بغداد هي وابنتها في يوم عرسي. كنت اقف لاستقبال المهنئين في قم ايران، وكان المرحوم الشاعر ابراهيم الباوي يلقي قصيدة جميلة عني بمناسبة الزواج بينما كانت ترقد هي وابنتها جثتين هامدتين في احدى مستشفيات بغداد. والحقيقة انني عند الموت كنت مؤمناً دائماً بقول المتنبي : نَصيبُكَ في حَياتِك من حبيبٍ نصيبُك في منامك من خيَالِ لا أتفاجأ بالموت، والموت فقد في تاثيره النفسي عليّ عامل المفاجأة دائماً. لذلك يثيرني الحوار معه على مهل، واستمع باستمرار لقصيدة مالك بن الريب يرثي نفسه، وقصيدة الزائر الاخير للشاعر عبد الرزاق . وهذه الخلفية جعلتني لا أتفاعل مع دموع العشاق والفاقدين وحزنهم الطويل والمتكرر، وارى فيه مبالغة، كذلك بكاء الضعف والاستكانه، كنت احب دموع المواقف الكبيرة .لم اتأثر في قرآتي الأدبية بدموع ورثائيات الخنساء لأخيها صخر، لكن يوقفني كثيراً بكاء علي بن ابي طالب (ع ) على طلحة في معركة الجمل . ومن ناحية مزاجية، فبكاء الأطفال يزعجني، اما بكاء المرأة فيدفعني لفعل المستحيل، وعندي ان العراقيين اعظم شعب بكاء في العالم، اما الألمان الذين عشت معهم نصف عمري فبكاؤهم مثلهم .. كأنه وصفة وصفها لهم طبيب حاذق يحافظ على صحتهم العامة . بكيت بكاءً مراً كالطفل يوم تفجير النجف الذي قتل فيه الشهيد السيد محمدباقر الحكيم. وتكرر بكائي وانا استغرب من نفسي: لماذا هذا الحادث بالذات ! في حين كنت اهرب من مشهد شهداء سبايكر هروباً، ولَم ابك عليهم، وفسرت ذلك فيما بعد انه شعور بهدر الكرامة، من مقاتل قديم مثلي ، وأنها ضربة لئيم لا يردها الا ضربة كريم تشفي الصدر . لم اعلم ولَم ادرك يوم إعدام مرشدنا وقدوتنا محمد باقر الصدر، لكنني حين قتل الشهيد محمد الصدر كنت في وكر سري في بغداد بعد عشر سنوات من غيابي في ايران، وكنت نائماً وكانت امي بجانبي، وحين صحوت على الخبر كان لي الف شاغل وشاغل بنفسي ومن معي من الاخوة عن البكاء . لكنني بكيتُ على ياسر عرفات بكاءً على فلسطين كلها، ومرحلة في حياة الامة عبر عنها المرحوم شفيق الحوت بعمق حين كان يقول : كان وداع ابي عمار لجنوده في بيروت وداعاً محزناً اشعرنا ان جميع السفن ترسو على شواطئها الا سفينة فلسطين، وكاننا نسافر من بحر الى بحر آخر . لقد بكيت حينها على فلسطين كلها. علمياً قرأت ان الدموع هي سائلٌ مالحٌ يتكوّن من البروتينات والماء والمخاط والزيت، ويتواجد في أعلى المنطقة الخارجيّة من العين وتحديدًا في الغدّة الدمعية “The Lacrimal Gland”، وبالتّأكيد ليست جميع الدّموع نتيجةً لإجهاد عاطفيٍّ، ففي الحقيقة هنالك ثلاثة أنواع من الدّموع تسهم جميعها في الحفاظ على صحّة العين. وقرات عن أهمية البكاء ان الكثير من العلماء يعتقد أنَّ البكاء مفيدٌ للصحة، حيث يساعد على التَّخلص من سموم الجسد النَّاتجة عن التوتر، ويعتقد علماء النفس أنَّ عدم التنفيس عن المشاعر لفترة طويلة قد يكون خطرًا على صحة الانسان . سوسيولوجياً نشأت في بيئة شيعية يعتبر البكاء فيها طقساً، وهو يخالف طبيعتي السيكولوجية في البكاء على غير موعد. لكن اعظم مصائب عاشوراء التي ابكي لها هي وداع الحسين ع لابنته سكينه، ووقوف زينب على جسد اخيها العباس . لكن حين صرتُ خطيباً كانت الدموع تفسد علي قرآتي للمراثي احياناً وبشكل مفاجئ يحرجني على منبري. ويبكيني الان من خطباء الشيعة صديقي الخطيب الشيخ زمان الحسناوي. اما العرب الذين انتمي لهم قومياً ولغوياً فكنت اتعجب من كثرة وقوفهم وبكائهم على الأطلال، وكنت ارى ان حالهم بين الامم والشعوب هو الاحق بالبكاء . وفِي القران وجدت دموع اخوة يوسف لئيمة وكاذبة حين يرويها الكتاب المجيد ( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ) اشعر انهم هم الذئاب وليس ثمة ذئب آخر. اما دموع النصارى فطالما كانت تثير دموعي وانا اقرأ القران واشعر بصدقها وان فيها رقة ونداوة وعواطف يسوع : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. ارقى انواع الدموع هي تلك الدموع التي تعبر عن المعاني بعمق؛ او تلك التي وصفها باولو كويلو بقوله : الدموع كلمات بحاجة ان تكتبها .... اما الدمعة الاصدق، والأعمق، والأشد حرقة وغزارة .... فهي الدمعة التي ظلت تتأرجح ما بين الجفن والجفن ، والتي لم تنزل من عيوني بعد .
*
اضافة التعليق