بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
قبل يوم من حلول ذكرى إعدام (الأسود) الثلاثة: يوسف سلمان (فهد) ورفيقيه حسين محمد الشبيبي (صارم)، وزكي بسيم (حازم)، كنت قد أكملت مقالتي الإفتتاحية لهذه المناسبة المفجعة، وقد حاولت قدر الإمكان أن أطرزها بشذرات من المعلومات الجديدة، أو غير المكررة.. فذكرت فيها مثلاً، معلومات عن حضور السفير البريطاني عملية إعدام الشهيد فهد، رغم أن الإعدام تم في ساعة مبكرة من فجر الرابع عشر من شباط، وفي ساحة المتحف التي تكتظ عادة في مثل هذا الوقت بعمال المساطر وحشود الجنود والمسافرين على قطارات السكك، حيث تقع منصة الاعدام قرب المحطة العالمية في علاوي الحلة، لكن السفير - ورغم هذه المخاطر -حضر، بل وتأكد بنفسه من شنق فهد.. وكان السفير البريطاني نفسه حضر ايضاً جلسات محاكمة فهد ورفاقه في محكمة الوشاش، وأشرف على اصدار قرار الحكم بإعدام الفرسان الثلاثة، ليطلق بعدها قولته جذلاً: (لن تقوم بعد اليوم قائمة للشيوعيين في العراق )! لقد كنت أكتب مقالي هذا وأنا أتخيل حال السفير البريطاني، وهو يسمع زئير الأسد فهد يملأ ساحة المتحف هاتفاً: (الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق)! وطبعاً، فإن حضور السفير لعملية الاعدام لم تكن المعلومة الوحيدة في مقالتي، إنما أدرجت معها معلومات اخرى، من بينها ساعة اليد التي انتزعها الشهيد فهد من معصمه ليلة الاعدام، وسلمها الى احد الرفاق الشباب الذين حكم عليهم بالسجن لفترة قصيرة، قائلاً له: (لا أملك غير هذه الساعة، لذا ارجوك ايصالها الى الرفاق حال الافراج عنك، وهي امانة عندك، فالحزب بحاجة اليها حتماً في هذه الظروف المالية الصعبة)! وقد حفظ الرفيق الشاب الامانة، وأوصلها للحزب .. كما أدرجت في مقالتي، تلك الزيارة المفاجئة التي قام بها (الوصي عبد الإله) لزنزانة الشهيد زكي بسيم في معتقل أبو غريب ليلة تنفيذ الإعدام، وقد جرت بين الاثنين محادثة أثبت فيها الشهيد بسيم، عظمة الشيوعي وصدق وطنيته وشجاعته، حين اختتم حديثه قائلاً للوصي، الذي جاء يعرض عليه - بشكل غير مباشر - عفواً فردياً خاصاً مقابل التخلي عن الحزب: " قبل ان تأتي الى زنزانتي، اسألك هل ذهبت الى (شطيط)، لترى سكان الصرائف ماذا يشربون من ماء، وما هي مساكنهم ، وهل تعرف أن المياه تجري من تحتهم، أليس هؤلاء أبناء شعبك؟!، لكنك لاتستحي وليس لك غيرة" نعم، بهذه المعلومات وبغيرها أردت أن أدفع مقالتي للمطبعة، وقد ضممت لها موقف البطل حسين الشبيبي، الذي التقى والدته قبل الاعدام بساعات، وقد قال لها: "جاؤوني بواحد معمم من شاكلتهم، لأشهد على يديه (أن لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله)، لكني رفضته، وقلت له: إني من بيت دين وأدب، واعرف الشهادة اكثر منك، فلا حاجة لي بمثلك، وطردته" هذا وانهيت مقالتي بذكر زيارتي لقبر الشهيد فهد صبيحة 31 من آذار العام 1973، حيث القيت وقتها كلمة باسم وفد (الشبيبة العمالية)، ثم دونت في آخر المقال ما رواه الرفيق عبد الرزاق الصافي حول كيفية الاستدلال على قبر فهد، إذ قال الصافي: (نظراً لمعرفتي بأن امانة بغداد هي من تولت دفن جثمان الشهيد فهد، فقد استعنت بالشهيد محمد حسين ابو العيس للذهاب معي الى امانة العاصمة، والسؤال عن مكان القبر، فاستقبلنا المرحوم الفنان فخري الزبيدي، مدير العلاقات في الأمانة آنذاك بالترحاب، وبادر فوراً الى مراجعة سجلات الدائرة فوجد ان جثمان الشهيد فهد مدفون في مقبرة الشهداء مقابل سجن بغداد المركزي في باب المعظم، وعند بحثنا عن الدفان في هذه المقبرة سنة 1949، ظهر لنا ان اسمه جبار، وهو لم يزل في الخدمة، غير انه يعمل في مقبرة اخرى، وعندما جاء الدفان، سألناه عن قبر الشهيد فهد، فقال: هو المسيحي مو ؟ قلنا له: نعم. فقال: اني اتذكر جيداً اين دفنته. ودلنا على القبر، الذي كان في طرف المقبرة، وبين نخلتين، كي لايختلط بقبور المسلمين، ولما حفر في المكان الذي شخصه، تأكد لنا انه قبر الشهيد فهد فعلاً ..)! وما ان أنهيت افتتاحيتي، وهممت بارسالها للطبع، حتى فوجئت بصديق تقدمي، أحترمه جداً، وهو يسألني، بعد أن أخبرته بمقالي عن اعدام قادة الحزب، قائلاً: لماذا برأيك (يتعاطف) الشيوعيون مع استشهاد سلام عادل أكثر من تعاطفهم مع قضية استشهاد فهد، مع أنهما لقِيا المصير المؤلم ذاته! قلت له: سأجيبك بأسئلة هي ربما أبلغ من الأجوبة! فمثلاً بعد كارثة الزلازل التركي والسوري، الحالية، وقد أبيدت للأسف الاف العوائل المنكوبة، وحين تنتشل الضحايا، نجد أن الناس يتعاطفون مع الطفل المنتشلة جثته أكثر من تعاطفهم مع جثث بقية العائلة، مع أن كل افراد العائلة قد ماتوا! مثال ثانٍ وثالث مع الفارق في التشبيه، إذ تقول كتب التاريخ إن ثمة الكثير من الأنبياء صُلبوا وقُتلوا على يد بني إسرائيل، ومنهم على سبيل المثال، الانبياء عيسى وشعياء وزكريا ويحيى بن زكريا وغيرهم، لكن جميع من في الأرض يتعاطف اليوم مع صلب النبي عيسى أكثر من سواه، فلماذا يحصل هذا، وهم كلهم أنبياء.. وشهداء؟!
وفي قصة الإمام الحسين، نجد البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها تتعاطف مع الفجيعة الحسينية، بينما عشرات الشهداء من بيت النبوة، لم ينالوا ما ناله الإمام الحسين من حب وتعاطف وتأييد .. وكذلك الأمر مع استشهاد الثائر الأممي جيفار، وما حظي به استشهاده دون غيره من حب وتعاطف ..! وهكذا الحال يمضي مع الشيوعيين العراقيين في قضية استشهاد سلام عادل، إذ أن ثمة خيطاً واحداً يربط بين مأساته ومآسي الشهداء الذين مر ذكرهم آنفاً، مما يجعل فجيعته تستقر في عمق الوجدان الجمعي.. وللحق، فأنا أشبه عمليتي اعدام سلام عادل وفهد، بهذا التشبيه الدرامي: لقد أحدث إعدام فهد في تلك الظروف التاريخية المرّة، كسراً شديداً في ضلع الحزب، لكن هذا الكسر - قابل للتجبير والشفاء، وقد شفي الحزب فعلاً، بعد فقد زعيمه، ورفيقيه، لينهض بسرعة لقيادة الشارع العراقي. أما إعدام سلام عادل فقد كان جرحاً عميقاً في قلب الحزب، وكلنا يعرف أن الجروح قد تشفى كلها إلا جرح القلب فهو الذي لن يشفى ولا يطيب، وإن طاب، فهو (يطيب بس ما ينمحي) ! إذن، فسلام عادل فطّر بسبب بشاعة موته، قلب الشيوعيين، ليس إلا، فهم لا يفضلون شهيداً على شهيد، مهما كان، إنما قد تنتج الأقدار حدثاً تراجيدياً موجعاً، كحدث استشهاد سلام عادل، فيصنع هذا الحدث فجيعة تنمو في اللا وعي، وتستقر في عمق الذاكرة، وتتوارث الاجيال الشيوعية، جينات هذا التعاطف جيلاً بعد جيل.. ثم قلت: هذا كل ما في الحكاية ياصديقي، ولا ثمة شيء آخر، فالشهيدان فهد وسلام عادل يحظيان بذات القيمة والحب، بل وقد يكون للقائد فهد - بحكم قدراته ومهاراته في منجز الريادة والتأسيس، درجات أعلى .. ولا أظن أن شيوعياً واحداً لم يشعر بفداحة ومرارة فقد فهد.
*
اضافة التعليق