بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
ليس المقصود بعنوان هذا المقال، أن الحزب الشيوعي العراقي قد وصل الى مدينة الثورة، ولم يصل الى المنصور، خاصة وأن هناك أكثر من رفيق شيوعي معروف يقيم في منطقة المنصور منذ تأسيسها، إنما قصدت الحديث عن حركة شيوعية فاعلة، واسعة، واتجاه مؤثر في مدينة الثورة، وليس انتماءً فردياً هنا، أو تعاطفاً عائلياً هناك، كما في المنصور أو ما يماثلها..
لقد كانت في مدينة الثورة آنذاك، مساحة واسعة من الضوء المعرفي، وكان سماؤها الفكري يضاء بحقل من بهاء الأقمار الشيوعية، لا بنجمة واحدة هنا، أو بومضة شيوعية تبرق هناك. وهذا يعود حتماً لان مدينة الثورة مدينة كادحة من الوريد الى الوريد، وأن الحزب الشيوعي حزبها، والمعبر عنها، وعن طموحاتها، ألم يقل ماركس، أن (الحزب الشيوعي، هو الطليعة الثورية الواعية للطبقة العاملة، وهو منظمها وزعيمها، وقيادة هذا الحزب للطبقة العاملة شرط لا غنى عنه، لكي تؤدي البروليتاريا رسالتها التاريخية، وبدون هذا سيستحيل بناء المجتمع الجديد، مجتمع العدالة الاجتماعية والاشتراكية)؟
والآن، وبعد أن أوضحتُ الفكرة، دعوني أعود الى الخلفية الإجتماعية والاقتصادية لسكنة مدينة الثورة، ولجذرهم الطبقي.
إن أغلب (أهل الثورة) قدموا أولاً من ارياف جنوب العراق الى بغداد في أواخر خمسينيات القرن الماضي، بسبب الضغوطات الكثيرة عليهم بدءاً من العوز، والفقر، والحرمان، مروراً بالمرض والعلل التي كانت تضرب حياتهم بلا رحمة، وانتهاءً بقسوة وفداحة الظلم الذي تسلط على رقابهم في عموم محافظات الجنوب، لاسيما في العمارة والناصرية.. لقد هاجر أهلنا بحثاً عن حياة آمنة لائقة، تحفظ كرامتهم وتؤمن مستقبلاً جيداً لأبنائهم، وتوفر لهم فرص عمل جديدة.. وحتماً فإن أحلامهم الوردية بالوصول الى بغداد كانت تقترن بأمل السكن في مدينة تتوفر فيها المدارس والتعليم بمختلف مراحله، والطب، والماء الصالح للشرب، والكهرباء، وبيوت نظيفة تصلح للسكن الآدمي، لكنهم صدموا حين وصلوا العاصمة، إذ لم يجدوا فيها ما كانوا يحلمون به، فكانت ضربة عنيفة لهم، فلا بيوت لائقة، ولا فرص عمل متوفرة ، ولا خدمات صحية، والاسوأ من ذلك، أن أغلب النازحين، كانوا أمييين بلا مؤهلات دراسية، ولا مهارات مهنية ، تدفع بهم للعمل في الدوائر الحكومية أو الصناعية! ناهيك من أن أغلبهم ليس له في بغداد امتدادات عائلية أو قبلية، أو قرابة او صلات اجتماعية، ليقدموا لهم عوناً، أو مساعدة في هذه الظروف..لقد جاؤوا الى بغداد، ولا معين لهم غير الاعتماد على انفسهم فحسب! لذا بات لزاماً عليهم، في هذه الحالة ان يكدحوا بجد، وهذا ما حصل فعلاً، فكان الأب - يعمل في أكثر من محل ليعيل عائلة يصل عدد بعضها الى ثلاثة عشر فرداً أو أكثر- مثل عائلتنا نحن - ولعل الشيء المهم، أن هؤلاء الآباء العظام لم يتوقفوا قط عن ارسال اولادهم الى المدارس، مهما كانت الظروف، حتى أنهم كانوا يقطعون اللقمة من أفواههم ليشتروا بثمنها الدفاتر والأقلام ومستلزمات الدراسة لابنائهم. وفي ظل هذه الظروف الصعبة، انتمى بعض هؤلاء الآباء الى الحزب الشيوعي العراقي في مناطق الصرائف بالشاكرية والميزره والعاصمة، وكمب الصليخ، وبعضهم تم كسبه للحزب أثناء اشتغاله في معامل السجائر وشركة باتا والغزل والنسيج، والزيوت النباتية ومعامل الشالچية. لقد جاء انتماء هؤلاء للحزب الشيوعي، لكونه حزب الفقراء والكادحين والمحرومين.. وكان من الطبيعي أن يواصل بعض هؤلاء المنتمين نشاطهم الحزبي في مدينة الثورة، حين انتقلوا للسكن فيها، حيث قاموا بتشكيل الخلايا الشيوعية الاولى في المدينة، خاصة بعد اطلاق سراح عدد من السجناء، وفيهم الكثير من العناصر الشيوعية الخبيرة في العمل التنظيمي، فوجدت الميدان أمامها رحباً، ومهيأً تماماً، فالظروف كانت ناضجة وشروط العمل متوفرة.. وإذا كانت النخلة لا تثمر بالرطب البرحي، ما لم يتوفر لها الماء والتربة والضوء والطقس الملائم، فإن الفكرة المثمرة، لاسيما الفكرة الشيوعية، تحتاج أيضاً لبعض الظروف والشروط الملائمة، وللحق فقد كانت الأجواء معدة للعمل الحزبي.. لاسيما قبل تسلم البعث مقاليد السلطة العام 1968.. وهنا أتذكر في منطقتنا، المناضل والرياضي جاسم عودة (أبو نضال) الذي أطلق سراحه من سجن الحلة، حيث قام الرجل فوراً باعادة تأسيس فريق اتحاد فيوري، الذي كان يمثل مع اتحاد حبيب وبعض الفرق الكروية احد اهم أعمدة الكرة في ملاعب الثورة وبغداد الشعبية.. وسنخصص قريباً مقالة لهذه الفرق.
لقد نشط جاسم عودة ورفاقه وزملاؤه أمثال كاظم مهلهل ( أبو ثائر) وغيره، وتمكنوا من خلال صورتهم الاخلاقية والرياضية الباهرة، من فتح نافذة للفكر الشيوعي والتأثير في الشباب منذ منتصف الستينيات تقريباً، وحتى عام 1970، حيث نشأ جيل جديد واعٍ من أبناء المدينة، جيل تعلم في المدارس، وقرأ الكتب الادبية والسياسية والفكرية التقدمية التي توفرت له، وتثقف بما يكفي لمعرفة واقعه الطبقي ومعاناة أهله، فتأسست في مدارسهم وبعض تجمعاتهم منظمات ديمقراطية وبؤر فكرية يقودها بشكل مباشر أو غير مباشر مناضلون شيوعيون وديمقراطيون متمرسون في العمل التنظيمي، الأمر الذي ترك أثراً واضحاً وحقق نجاحات تاريخية في المدينة، مثل ما حصل في انتخابات ثانوية قتيبة للبنين عام 69، عندما فازت القائمة الديمقراطية
التي تبناها اتحاد الطلبة العام على (القائمة الموحدة)، التي تبناها (الاتحاد الوطني لطلبة العراق)، فوزاً كاسحاً، وقد ضمت القائمة الديمقراطية، كلاً من الطلبة: نعيم عليوي جاسم (ابو ربيع)، ماجد صالح عطية، صاحب ثاني راضي، صباح ثاني راضي، صباح حسن - شقيق اللاعب المعروف فلاح حسن، زيدان خلف، جواد كاظم الموسوي ، عزيز، هاشم عباس الرفاعي، عبد الواحد فرحان. وبعد هذا الفوز الذي بثته وكالات الأنباء والمحطات الاذاعية العالمية، جن جنون المجرم ناظم گزار، فقام بحملة اعتقالات عنيفة بين اوساط الطلبة والقطاعات الاخرى في المدينة، حتى أن صدام حسين نفسه أقال بسببها قائمقام المدينة مسلم الجبوري من منصبه!
لقد أعطى هذا الفوز الباهر شحنة معنوية عالية، ودفقاً فائضاً في نشر الافكار الوطنية، والاشتراكية بين قطاعات المدينة، لتصل الى عقول وقلوب الفتية والشباب من الذكور والاناث بيسر. وكان جيل الطلبة الذي فاز في انتخابات قتيبة، امتداداً طبيعياً لجيل المناضلين الاوائل في المدينة، أمثال الكادر العمالي الشهيد عبد الأمير سعيد، والمناضل الاسطورة (فعل ضمد) الذي اختفى فترة في بيت شقيقه المناضل حسن ضمد في قطاع 33، فكان بيته محجاً لعشاق الفكر التقدمي، ونتذكر أيضاً العامل والمناضل اسماعيل كريم البهادلي الذي خرج من سجن رقم واحد الى ساحة العمل الجماهيري مباشرة، والمناضل جمعة حطاب ابو احسان - أول من كسبني للحزب الشيوعي رسمياً- والعامل العنيد عبد الحسين حافظ أبو نرجس، والمناضل الجسور حمود حسين العبودي - أبو عادل - والعامل الشيوعي سيد جبار أبو نصير، والمناضل مآذي أبو سلام، والمناضل سيد محمد ابو جاسم وغيرهم من المناضلين الاوائل الذين لا اعرفهم ولم يتسن لي الاطلاع على نضالاتهم السرية، فهؤلاء جميعا اوقدوا مشاعل الفكر الشيوعي في أزقة مدينة الثورة المظلمة، واضاؤوا الطريق أمام آلاف الشباب الصاعد، ليمضوا في طريق الحرية، وهم ينشدون للوطن والحب والجمال، والإنسانية.
*
اضافة التعليق