بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
هي ليست مذكرات، أو ذكريات تعنيني فحسب، إنما هي بعض توهجات، تضيء قلبي وذاكرتي بين حين وآخر، وتتألق بقوة شعاعها وعطر أريجها، فتحضر رغم شساعة المساحة الفاصلة بين الزمنين، تحضر طريةً، أنيقةً، مشتهاة، بل ومهيأًة تماماً لتدوينها وتسطيرها عبر هذا العمود الصحفي، أنشرها، والأمل يحدوني في أنها ستقدم فائدة، او درساً، أو تأريخاً مختصراً للأجيال الجديدة، وأيضاً ليفخر بنا أبناؤنا، حين يعرفون كم كنا باهرين وساطعين، رغم ظلمة الزمن، وانطفاء القناديل، وأنف الظروف المعيشية.. نعم، كنا فقراء حد الجوع، لكننا لم نكن نشعر يوماً بالحرمان، لأن عيوننا كانت ممتلئة بضوء الحياة، وقلوبنا مكتنزة بالأمل والتقدم، ونفوسنا مترعة بالحب والجمال، لذلك لم نسقط في ذل الإحساس بمهانة الجوع أبداً، بدليل أن نسبة جرائم الاغتصاب والرشى والسرقة في زمننا كانت تمثل واحداً في المئة مما هي عليه الآن.. أنا لا أدعي أننا أنبياء، أو كنا قديسين، لكننا كنا شرفاء، وكان زمننا شريفاً ناصعاً، أما الأنبياء والقديسون، فهم آباؤنا وامهاتنا بفخر.. في خريف العام 1964، وطأت أقدامنا أرض مدينة الثورة.. وحططنا رحالنا في القطعة المرقمة 13 / 2 / 43، ولم تكن قد شيدت في قطاع 43 بعد، سوى بيوت قليلة يمكن عدها على عدد الاصابع.. وكان الوضع وقتها معقداً جداً، فالمبلغ الذي وفره الوالد للبناء بشق الأنفس، قليل لايكفي لبناء بيت حتى لو كان البيت بسيطاً، اضافة الى عدم توفر الخدمات التي تساعد البناء، كالماء والكهرباء والنقل! لذلك اعتمدنا التقتير في المصروفات واعتمدنا على أنفسنا في عملية البناء. ولأننا - أنا وأخي الشهيد خيون- كنا العمال الذين شُيّد على رؤوسهم البيت، فقد ضاعت علينا السنة الدراسية التي كنا فيها! وهكذا استقر بنا الحال في المدينة، وشيئاً فشيئاً بات القادمون يحطون رحالهم في قطاع 43، والقطاعات الأخرى، وشيئاً فشيئاً راح البناء يعلو، والبيوت تُشيد، والسطوح ترتفع، ومعها يرتفع سقف الطموحات، وبدأت الشوارع والأزقة تنبض بالحياة والحركة، كما بدأ الناس يشعرون بالسلام والأمان، والمودة ودفء العلاقات وحميمية الصلات الاجتماعية، ثم راح الشباب يبحثون عن وسائل وأدوات تعبيرية جديدة لحياتهم، وسائل أكثر رقياً من تلك الوسائل البالية. ثم بدؤوا يتجمعون في فرق كروية صغيرة، او حلقات ثقافية واجتماعية، وبانت بعض ملامح الوجه الفني جليّة عبر انشطة مسرحية وتشكيلية وغنائية وشعرية عديدة، وقبلها افتتح عدد من مدارس الابتدائية للبنين والبنات، وأنشئت ثانوية (قتيبة)، كما أسست مراكز للشرطة، ومحطة لتصفية الماء، ومكتب للبريد وآخر للبلدية، وعيادات ومراكز طبية، فضلاً عن عدد من الجوامع والمتاجر، اضافة الى تبليط بعض الشوارع الرئيسة بالاسفلت، كما تم فتح الكثير من المقاهي، وحولها انتشرت المطاعم والأفران، وبعض صالونات الحلاقة، وظهرت الأسواق الشعبية في المدينة مع كثرة الملاعب الكروية ..
لقد صنعوا لهم وجوداً من اللا شيء، وانجزوا مدينةً وحياةً من العدم! وهنا أتذكر، أننا كنا نسمع أول الليل - خصوصاً أيام الخميس- أصوات بعض المطربين المعروفين في مدينة الثورة، مثل عبادي العماري وحسين سعيدة، وسلمان المنكوب، قادمة عبر مكبرات الصوت من حيث كان هؤلاء يحيون حفلات الأعراس في أماكن مختلفة من المدينة .. ولأني كنت معجباً بصوت المطرب عبادي العماري، فقد كنت أمشي على الأقدام، ومعي صديق أو أكثر، نحو الحفل الذي كان يحييه (أبو سعد)، متبعاً صدى صوت السماعات، وطالما أخفقنا بالاستدلال على مكان الحفل، او قد نصل متأخرين، فلا نجد غير أصحاب الحفل وهم يجمعون الكراسي، فنعود خائبين ! ومن الطريف أن عبادي دعاني في بيته بعد عشر سنوات، وحكيت له قصة معاناتي مع حفلاته الليلية تلك، ومشيي على الأقدام، فابتسم أبو سعد، وقال بحميمية وود: عمت عيني عليك - بكسر اللام - واليوم أقول بصدق، إن بذرة حب الفن، قد زرعت في قلبي منذ تلك الليالي التي كنت أبحث فيها عن صوت عبادي، المعطر برائحة الجنوب الأخاذة، والمدهش أني لم أنتظر البذرة وهي تنمو لوحدها، إنما رحت أسقيها بنفسي، عبر القراءة، والسماع، وما يصدر من مراكز الفن في القاهرة وبيروت والكويت، ولندن وباريس، وملاحقتي لأخبار الفن العالمي مثل فرقة البيتلز (الخنافس) البريطانية، وحفلات الفنان الفيس بريسلي، ورقصته (الروك آند رول) التي أقامت الدنيا ولم تقعدها. ورغم صغر سني فقد كنت أذهب لسينما غرناطة (الراقية) لأشاهد الافلام الفرنسية دون غيرها مثل افلام ألن ديلون وجان بول بلموندو ، وبريجيت باردو، وصوفي مارسو وغيرهم .. وكنا نعرف بيكاسو، ودالي، وجيفارا، وهمنغواي، وسلامة موسى. وشكسبير، وبتهوفن، وهيتشكوك، بل وأذكر أن صديقي لاعب السكك والقوة الجوية سعيد مهدي دعاني العام 1970 لسماع اسطوانة (فرانك سيناترا)، وأغنية (ثلاث عملات في النافورة). إن هذا الأمر قد يبدو الآن غريباً لبعض القراء، ولهم الحق في ذلك، فقد كنا جيلاً عجيباً غريباً، ومن مدينة عجيبة، نسمع مثلاً عبادي العماري، وفرانك سيناتراً معاً، ونبزخ مع وحيد الاسود على إيقاع (آنه المسيچينه)، ونرقص مع الفيس بريسلي في أغنية (في الغيتو) ! وهنا أتذكر فتىً من جيلنا، اسمه عبد الواحد، الذي يبيع في النهار (بطاقات اليانصيب) وفي المساء يرسم لوحات عجيبة، حتى ازدحمت زوايا غرفته بأكثر من 50 لوحة، ولا أعرف أين أصبح عبد الواحد، وأين أمست لوحاته؟ دعوني أعرض شيئاً عن ثقتي بحدسي ونجاحي به، فيوم جاءني الفنان عبد الله الناصر، ليعرض عليّ دوراً بمسرحية (أشكال وأرناگ) وقبلته ومثلته باجادة، ثم عاد الناصر مرة اخرى ليعرض عليّ دوراً جديداً، لكني اعتذرت له قائلاً: مكاني مو بالمسرح أستاذ! وحين احترفت كرة القدم، في فريق السكك -الزوراء حالياً- وتوقع لي الكثيرون مستقبلاً باهراً، تركت الكرة أيضاً، ولما سألني المدرب الراحل جرجيس الياس عن السبب، قلت له: مكاني مو بالملاعب كابتن! حتى عثرت على مكاني في ( بيت ) الشعر.. وربما لم أكتب حتى الان قصيدتي التي أحلم بها، حالي حال الشاعر الفذ ناظم حكمت ( الذي لم يكتب قصيدته الاجمل حتى الان !)، لكني أشعر بفرح، ومتعة، كلما غصت في موقد الشعر، واحترقت من قمة جنوني حتى أخمص قصيدتي ! وهنا استذكر (أبو حازم)، ذلك الرجل الطيب الذي افتتح في قطاعنا مقهى صغيراً جداً بحيث لم يصل عدد زبائنه الى 15 زبوناً، ولم تتوفر فيه سوى قنفتين وكرسيين وطاولة صغيرة.. أما نوعية الشاي المقدّم، فحدث بلا حرج !! وكان المقهى مقتطعاً من مساحة البيت.. فـ( كانوا ) يسمعون كل كلامنا ولغونا. في هذا المقهى تحديداً، أسست عام 1968( رابطة أنصار عبد الحليم حافظ)، وقد ضمت سبعة أعضاء، ثم علمت بعدها أن ( ابنة) صاحب المقهى، تحب عبد الحليم مثلنا، وهي معجبة برابطتنا، لذلك قررنا ضمها للرابطة دون علمها طبعاً ! وكانت في المقهى رابطة لأنصار فريد الاطرش أيضاً لكنها بخمسة أعضاء، يرأسها الصديق گاطع محسن، ولا أحدثكم عن حدة التنافس بيننا، فقد كانت أشد من التنافس بين عبد الحليم والاطرش! ولكم أن تتخيلوا رابطتين فنيتين في مقهى صغير بحجم الكشك، وفي قطاع من قطاعات مدينة الثورة، وقبل خمس وخمسين سنة.. فكيف يقدر الفقر على دحر هؤلاء المجانين؟.
*
اضافة التعليق