قصتي مع الحزب الشيوعي بلا مواربة ولا رتـــــــوش

بغداد- العراق اليوم:

قصتي مع الحزب الشيوعي بلا مواربة ولا رتـــــــوش

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

قبل خمسين عاماً وفي مثل هذا اليوم تحديداً، بدأت علاقتي (الرسمية) مع الحزب الشيوعي، وكانت أولاً عبر واجهته الديمقراطية: اتحاد الشبيبة الديمقراطي ..

وطبعاً، فأنا لم أنتمِ الى هذا الفكر الإنساني صدفةً أو عن طريق المراسلة، أو بواسطة فتاة شيوعية كسبتني بجمالها للحزب- كما كان يدعي دائماً خصوم الشيوعية السفهاء- إنما جاء هذا الانتماء بعد أن توفرت له مبررات وأسباب عديدة.. منها ما يتعلق بجذري الطبقي، ومنها ما يتعلق بالتأثيرات العائلية.. فوالدي مثلاً كان محباً وعاشقاً للزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، ولكل من كان برفقة الزعيم من فرسان عهده، وأغلبهم كان شيوعياً طبعاً.. فضلاً عن تأثير شقيقي الشهيد خيون حسون الدراجي، الذي تحسس قبلي أوجاع طبقتنا وهمومها الثقيلة، فانتمى للحزب الشيوعي بكل وعي وشجاعة، حتى استشهد وهو يحفظ لهذا الانتماء شرفه وطهره.

وكان لأبناء عمي الحاج حسين، خصوصاً المعلم الراحل غازي، تأثير كبير في إيقاظ الحس الطبقي من منامه الهادئ الوديع.. ناهيك من تأثيرات البيئة الشعبية التي ترعرعت فيها، حيث كانت مدينة الثورة أرضاً خصبة لزراعة الفكر الشيوعي الوطني ..

نعم، فقد كان لهذه التأثيرات دور كبير في توجيه بوصلتي الفكرية نحو محطة الجمال الانساني التقدمي، ولكن التأثير الأكبر كان يعود لي شخصياً، وهذا حق يجب أن أعترف به لنفسي..

وسيتأكد القارئ من ذلك، حين يعرف أن علاقتي بالشيوعية قد تحققت عبر مراحل عدة، بدأت من مرحلة التعارف والبحث والاستكشاف والرصد المتواصل، وقد استغرقت هذه المرحلة حوالي أربع سنوات، وأظن أن رفاق صباي وشبابي وأصدقائي الذين يقرؤون الآن هذا المقال، سيتذكرون جيداً بأني بقيت طويلاً، متأملاً وغير متعجل في موضوعة الانتماء للحزب الشيوعي.. في الوقت الذي كان فيه الكثير من أصدقائي منتمياً للحزب ذاته.

والعجيب، أني كنت عنصراً فعالاً في إحياء فعاليات ومناسبات الحزب الشيوعي، بما في ذلك السفرات شبه السرية، والحفلات الخاصة، اضافة الى المشاركة في التظاهرات، والتبرعات، والفعاليات الشعرية والفنية بل وحتى الرياضية، ولم أكن منتمياً!

وأسباب عدم تعجلي في الانتماء وقتها، تتلخص في أمر واحد: لقد أردت أن أعرف الشيوعية من أصولها الفلسفية، وجوهرها العلمي والآيدلوجي والثقافي، ومن خلال الغوص في أعماقها البعيدة، وليس السباحة في سطحها الخارجي ، لذلك مضيت في البدء الى مكسيم غوركي، عبر رواية (الأم).. وتوقفت عند رواية (كيف سقينا الفولاذ) للكاتب نيكولاي اوستروفسكي، ونهلت من ينابيع شولوخوف أطيب ما فيها، لاسيما رائعته (الأرض البكر حرثناها).. ومع هذا الخط الأدبي الواقعي الاشتراكي، تواصلت مع الكتب السياسية، فكان لكتاب (رأس المال) لكارل ماركس، وكتاب إنجلز الفذ ( أصل العائلة)، دور عظيم، كما تعرفت في تلك المرحلة الاستكشافية على المنهج الديالكتيكي، ومفهوم بليخانوف للمادية التاريخية، وأصول الفلسفة الماركسية، وغيرها من الكتب التي كنت ألتهمها بشهية عجيبة، وبالمناسبة، فقد كنت قارئاً استثنائياً، حتى أن تعارفنا أنا والشاعر الكبير كريم العراقي بدأ العام 1967 بسبب (كتاب)، نعم بسبب كتاب كنت قد استعرته من مكتبة متوسطة المصطفى التي كنا ندرس في صفوفها معاً آنذاك، وقد تأخر الكتاب عندي يومين، فجاء كريم يسأل عن بيت الطالب فالح حسون ليستعيد منه الكتاب، ومن ثم يستعيره من المكتبة .. فكان له ما أراد، وهكذا بدأت علاقتي بالطالب كريم عودة لعيبي (الشاعر كريم العراقي) والتي لم تنقطع يوماً طيلة 55 عاماً .. ومادام الحديث قادني الى الشعر، فيجب عليّ أن أمر على محطات الشعر التقدمي في رحلتي الطويلة، وتأثير القصيدة على توجهاتي الفكرية، وأذكر أني وزملائي وأصحابي كنا نتابع الشعر في العراق والعالم أكثر مما يتابعه النقاد والمتخصصون، رغم أننا لم نزل في مرحلة الدراسة الثانوية، فنحفظ قصائد مظفر النواب وشاكر السماوي وعلي الشباني وذياب گزار - أبو سرحان- وطارق ياسين وعزيز السماوي، وكاظم الركابي، وكامل العامري، واسماعيل محمد اسماعيل، وكاظم اسماعيل الكاطع، ومجيد جاسم الخيون، وعريان السيد خلف، وغيرهم من الشعراء التقدميين، فضلاً عن متابعة منجزات شعراء الفصحى كالجواهري العظيم، وسعدي يوسف، ويوسف الصائغ، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي، وكاظم الحجاج، وحسب الشيخ جعفر، وغيرهم، مع ملاحقة كل ما يصدر من ابداعات الشعراء التقدميين في العالم مثل ناظم حكمت واراغون، ونيرودا، ولوركا، ورسول حمزاتوف، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وغيرهم..

لقد كان لهذه الروافد، تأثير كبير على صياغة رؤاي الفكرية والسياسية، كما يجب القول بأني كنت في العام 1969منغمراً في لعبة كرة القدم، ولم يأتِ في بالي يوماً موضوع الانتماء الى أي حزب، رغم أني كنت - أكره - حزب البعث الذي كان قد عاد قبل أشهر لتسلم السلطة في العراق مرة ثانية، وسبب كرهي له، والذي كان يغذيه ويرفع درجاته والدي العزيز، يعود لتاريخ البعث الملطخ بالدم في انقلاب شباط الأسود..

إن كل هذه العوامل والأساسات القوية مهدت الأجواء عندي، وهيّأت عقلي ومشاعري ووجداني وضميري لقبول فكرة الانتماء للفكر الشيوعي..

لذلك، وافقت على الفور حين سألني المناضل الراحل،(القديس) جمعة حطاب (أبو احسان) عن

رأيي بالانتماء الى اتحاد الشبيبة الديمقراطي كمقدمة للانتماء للحزب .. ولم أوافق فحسب، إنما ذهبت أيضا معه تلك الليلة بصحبة العامل الشيوعي الجسور عبد الحسين حافظ الى حفلة خاصة أقيمت بمناسبة الذكرى الثامنة والثلاثين لميلاد الحزب الشيوعي، وكانت الحفلة في بيت أحد عمال الزيوت في مدينة الثورة..

وهكذا بدأت رحلتي الرسمية والوجدانية مع هذا الحزب المناضل عبر بوابة الشبيبة، ولم تنته الرحلة أو ينقطع الخيط الجميل مع الحزب الشيوعي طيلة خمسين عاما، رغم محاولات البعض، واصرارهم على قطع هذا الخيط .. ولكن هيهات، هيهات وهيهات!

 ومن الجدير بالذكر، أن انتمائي للشبيبة كان سبباً في علاقتي مع ( مسؤولي الحزبي) المناضل العمالي الكبير والقائد الشيوعي حيدر الشيخ علي (فيلي)، الذي هيأني وأعدني ورشحني للعمل في تنظيمات الحزب وليس في الشبيبة فقط، فنلت على يديه الكريمتين شرف العضوية في الحزب الشيوعي العراقي ..

وأذكر أن حيدر الشيخ علي، دسّ في جيبي بعد ستة أشهر مظروفاً، وهو يعانقني في ليلة عرسي، ويبارك لي زواجي، هامساً في أذني بمودة عالية: رفيق، هذه هربة الحزب لك !

وحين فتحت المظروف، وجدت فيه بطاقة العضوية للحزب، وفي ظهر البطاقة وصايا الخالد فهد، بينما كان في داخله اسمي الحزبي: (عبد الأمير) ..

 

علق هنا