بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي قبل تسعة وخمسين عاماً وفي مثل هذا اليوم الأسود تحديداً، انقلب المجرمون الفاشيون على جمهورية العراق الديمقراطية الفتية، فقتلوا غدراً زعيمها ومحررها من قيود الاستعمار، وأحلافه وأذنابه وقواعده ومرتكزاته: الشهيد البطل عبدالكريم قاسم، ومعه رجال، هم أشرف ما أنتج تاريخ الجيش العراقي الباسل عبر مسيرته الظافرة.. وإذا كان انقلاب (شباط الأسود) قد نجح بفعل عوامل خارجية وداخلية، كان بعضها خارجاً عن يد الثورة وقادتها، وبعضها جاء (من يد) قادة الثورة أنفسهم، بسبب نوايا الزعيم الطيبة، وسياسته السمحاء التي شيدها على ثقة مفرطة، وعلى أساسات وردية حالمة، مفادها أن الاخرين جميعاً طيبون مثله، ظاناً أن أعداءه، وخصومه يحملون مواصفاته النبيلة، فيسامحون مثله، ويعملون كما يعمل هو، لاسيما في سياسته التي شعارها: عفا الله عما سلف!! أقول: إذا كان الانقلابيون البعثيون نجحوا في انقلابهم ـ العار ـ فإن نجاحهم هذا كان لعنة وسُبَّة، وعارا عليهم الى الأبد، لقد كان انقلاب شباط لطخة سوداء مميزة في سجل البعثيين المخزي، بحيث ظلت هذه اللطخة عالقة بهم وبعقيدتهم القومية لأكثر من نصف قرن، دون أن ينجحوا في إزالتها!!. إن (انتصار) البعثيين في شباط 1963 كان هزيمة ماحقة، وساحقة لهم، ولمشروعهم العقائدي الفاشي.. وهذا يحدث لأول مرة، إذ لم يحدث من قبل أن يهُزم (النصر) في أولى ساعاته.. بل وقبل ان يتحقق بأيام.. نعم، لقد هُزم البعثيون من لحظة تفكيرهم بالانقلاب على ثورة شعبية وطنية، قدمت المنجزات العظيمة واحداً تلو الاخر دون توقف، رغم المؤامرات الداخلية والخارجية. وهُزم البعثيون أيضاً منذ أن تحرك (القطار الامريكي) بعرباته الاستخبارية، ناقلاً لهم عُدَّة التآمر ومخططات الدم والقتل والتدمير والإعلام الموجَّه.. لاسيما العربة التي حملت قوائم تصفية الشيوعيين، والوطنيين، والضباط الاحرار، الذين يتوجب على الانقلابيين قتلهم قبل أي شيء. وبالفعل، فقد نفذ العملاء إرشادات أسيادهم بدقة ومهارة فائقة، فابتدؤوا خطتهم التصفوية باغتيال الشهيد الطيار جلال الأوقاتي، قائد القوة الجوية آنذاك، ولم ينتهوا من القائمة حتى أكملوا تصفية جميع الاسماء المعروضة للقتل في تلك القائمة البائسة!!. اليوم وبعد تسعة وخمسين عاماً على ذلك اليوم الاسود، نطرح السؤال الذي لابد أن يطرح باستمرار، ومفاده: من بقي من قيادات المؤامرة على الزعيم في الذاكرة.. وإذا ما كان واحد منهم قد بقي، فهل يتذكره الناس بالاحترام، والتقدير، أم بالازدراء، والتحقير، لما ارتكبوه جميعاً من مذابح، ومآس بحق الشعب العراقي الطيب.. مقارنة بمن بقي خالداً، وساطعاً في الذاكرة من أولئك الرجال القلة الذين وقفوا بوجه المؤامرة وتصدوا للعدوان؟ يقيناً أن التأريخ منصف.. وأن الناس البسطاء عادلون جداً، لذلك تراهم قد منحوا لكل عنصر من عناصر ذلك الزمن حقه، فأغدقوا على البطل الشريف بحبهم وتقديرهم وتبجيل إسمه... في حين، أنهم أشعلوا في المجرم القاتل نيران الكراهية، ومواقد الاحتقار دون رحمة.. وتأسيساً على ذلك، بقيت (صور) الشهيد عبد الكريم قاسم خالدة في قلوب الناس، ومخابئهم، وصناديقهم العزيزة. ولعل رؤية صورة الزعيم في القمر، أو سطوع وجهه بين النجوم المتلألئة، واحد من الأدلة على عشق الناس لهذا الزعيم الوطني الشريف، ويوم سقط البعثيون في التاسع من نيسان 2003 (أي السقوط الثاني لهم بعد سقوطهم الاول في 18 تشرين 1963)، ركضت الجماهير الشعبية نحو الشوارع رافعة صور حبيبها الزعيم عبد الكريم قاسم، وكأنهم يريدون مبايعته على عرش قلوبهم، فيستعيدون بذلك حقاً اغتصبه القتلة في شباط الأسود.. ولم يكن الزعيم قاسم وحده عزيزاً على قلوب الناس الطيبين، إنما كان معه رفاقه وصحبه الميامين الذين استشهدوا في ذلك الانقلاب الفاشي، دفاعاً عن مكتسبات ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة.. إذن، هكذا ينظر العراقيون لعبد الكريم قاسم، وهكذا أفرد له التاريخ صفحات المجد والذكر الجميل، وهكذا سيظل مضيئاً في الذاكرة وساطعاً في القلوب والافئدة حتى زوال الحياة.. بينما سقط مجرمو شباط من البعثيين والعملاء وأذناب الرجعية في بئر العار والخزي والذكر السيء، ولم يعد أحد يتذكرهم إلاَ حين يتذكر موسوليني، وهتلر، وغيرهما من مجرمي الحروب في التاريخ البشري. تحية للشهيد البطل عبدالكريم قاسم، وهو يستقبل بشجاعة فائقة وابل الرصاص بعينين مفتوحتين بعد ان رفض وضع العصابة السوداء على عينيه لحظة تنفيذ الإعدام به.. وتحية للشهداء الأبطال فاضل عباس المهداوي، ووصفي طاهر، وعبدالكريم الجدة، وماجد محمد أمين، وتحية كبيرة للشهيد البطل سلام عادل، أسطورة الشهادة العراقية الجسورة، ولرفاقه الشيوعيين البواسل تحية معطرة بأريج المجد . الخزي والعار لمجرمي انقلاب شباط الاسود... ختاماً أقول: إذا كان انقلاب شباط الأسود قد نجح عسكرياً، فحتماً أنه سقط أخلاقياً وتاريخياً.
*
اضافة التعليق