بغداد- العراق اليوم: سمير خطيب من الرائع أن تكون شيوعيًا، ولكن من الصعب أن تكون كذلك. لماذا أنا شيوعي؟ هل أنا ماركسي أم ماركسي/لينيني، ماركسي/ ماوي أو تروتسكيّ؟ سؤال لم أفكر به، لأن هذه التفاصيل لم تكن تعني لي شيئًا عندما انضممت للحزب الشيوعي، ببساطة وجدت نفسي حيث يمكنني أن أمارس إنسانيتي وقناعتي وأفكاري بأن أغير العالم نحو الأفضل. بالنسبة لي شخصيًا، الشيوعي الحقيقي هو مناضل ضد العنصرية والاستعلاء، هو أو هي، أممي صميمي، شخص يؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعية لجميع الناس على هذه الأرض. أنا شيوعي لأنّ الشّيوعية هي الشّعور بالإنسانية، وهي التي تنير طريق فهم الحياة والكون وسر الوجود. فهي علمية أكثر من اللازم ومنطقية لدرجة عدم التصديق ورائعة لدرجة أنّها الحياة. الشيوعي ابن مجتمعه وشعبه وبيئته، ومن خلال قراءته للواقع الذي يعيش فيه ينطلق لتغييره نحو واقع أفضل، وخطابه ليس فوقيًا ولا غيبيًا، إنما من الناس وبمستوى الناس ومفاهيمهم ومعتقداتهم، فهو يناضل من أجل مهام اليوم التكتيكية ومهام المستقبل الاستراتيجية، وعندما قرأت مقولة لينين: "من الرائع أن تكون شيوعيًا، ولكن من الصعب أن تكون كذلك"، لم أستوعب الجزء الثاني منها، لكني الآن أفهمها، لماذا من الصعب أن تكون شيوعيًا؟ لأنك يجب أن تُبقي الشعلة مُتَّقدة للعمل والعطاء والدفاع عن المظلومين أينما كانوا بغض النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسهم حتى تسود العدالة والمساواة في كلّ مكان، لأني أعتقد أنّ الانسان لا يمكن أن يكون محايدًا في قضية العدل والمساواة وإذا كان كذلك فهو جبان إن لم يكن كاذبًا، ولهذا أنا شيوعي. لقد رأيت شعوبًا تخوض حروبًا أهلية وحشية؛ حروبًا تم إشعالها حتى تتمكن الشركات متعددة الجنسيات من النهب بشكلٍ مريح. رأيت ملايين اللاجئين من دولٍ كانت فيما مضى فخورةً وغنية دمّرها الغرب. رأيت ظروفًا غير إنسانية في العمل والمخيمات وبيوتًا لناس فقراء بالكاد تسترهم؛ وسمعت عن قرى صغيرة وبلداتٍ اختفى فيها جميع السكان - جوعًا أو مرضًا أو بسبب الإبادة على خلفية عرقية أو دينية، وقرأت عن نكبة شعبي وسرقة أرضه ووطنه وقابلت اللاجئين من أهلي وشعبي ومن شعوب أخرى وشعرت بألمهم وحنينهم للعودة للوطن، وكلّما رأيت ذلك، وكلّما شاهدت أكثر، كلّما سمعت القصص الصادمة؛ كلّما شعرت بأنني مضطر للانحياز، للنضال من أجل ما أعتقد أنه عالم أفضل. بالنسبة لي، أن تكون شيوعيًا حقيقيًا يعني: الالتزام بالنضال المستمر ضد اغتصاب الأدمغة والأجساد والكرامة الإنسانية، وضد نهب الموارد والطبيعة، وضد الأنانية والفراغ الفكري والعاطفي. ولهذا أنا شيوعي. بسبب الشيوعيين من أبناء شعبي عندما قررت ان أكون شيوعيًا، فعلت ذلك بسبب الشيوعيين من أبناء شعبي، واعجابًا بمواقفهم وقدرتهم على اتخاذ المواقف حتى في أحلك الظروف، وما لفت انتباهي أكثر هو اندماج الطبقي مع الوطني والعالمي في عملهم، حيث كانت قراراتهم كلها مدروسة وتتشابه بأنها لم تحد يومًا عن الاتجاه نحو الهدف النهائي وهو السلام والعدالة الاجتماعية، وأنها استعملت نفس البوصلة بالتوجيه وهي حماية الناس والحفاظ على مصالحهم الوطنية والمدنية. قرأت مواقف توفيق طوبي ورفاقنا الآخرين طيبي الذكر (في سياقها الزماني) في أصعب وأظلم فترة مرت على شعبنا، وهي ما بعد النكبة مباشرة وكان شعارها البقاء ثم البقاء ثم البقاء، حتى صرنا نحن الباقون شوكة في حلق الحركة الصهيونية، ولاحقًا صار شعار المرحلة تثبيت الهوية الثقافية وتعزيز الانتماء الوطني والعزيمة. ما أريد قوله أن لكلّ مرحلة أهدافها وخطابها وأساليبها بدون إغفال العين عن الهدف المنشود وهو إحقاق الحقوق القومية والمدنية حتى السلام والمساواة، ومن ضمن الأساليب إقامة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة لتوسيع قاعدة النضال والوصول لأكبر عدد من شرائح المجتمع الوطنية التي لا تتفق بالكامل مع أهداف ومبادئ الحزب الشيوعي، وفي هذه المرحلة بالتحديد انضممت للشبيبة الشيوعية حيث كان يوم الأرض ودور الشيوعيين المركزي في تنظيمه وتعبئة وقيادة الناس في المواجهة مفصليًا في قراري، وقد لفت انتباهي أن القضايا التي عمل عليها الشيوعيون لم تكن تراتبية في الأولويات، فعند طرح القضايا الوطنية لم يتم إغفال القضايا المدنية والعكس صحيح وكانت جدلية القومي واليومي عابرة لكل الأزمنة والحقب وتم اتخاذ القرارات بناء على المعطيات والمستجدات، وهذا الأمر جعلني لا أفكر مرتين وقرّرت أن أكون شيوعيًا مثل الشيوعيين الذي أعجبني أسلوبهم وتصميمهم ومبدئيتهم، ولهذا أنا شيوعي . التجديد كامن في طبيعة ومنهج الماركسية عندما صرت شيوعيًا بدأت بقراءة النظرية ودراستها، فقرأت الكثير من الكتب ولكني لم أستطع قراءة كتاب رأس المال لكارل ماركس كاملاً فهو طويل وجاف، كما أنه ليس الركن الوحيد للشيوعية، وليس برأيي كتابًا مقدسًا يجب الاقتباس منه باستمرار، وشدّتني دائمًا مقولة ماركس وانجلز في كتاب "الايديولوجيا الألمانية" وأورد هنا المقتطف التالي: "ليست الشيوعية بالنسبة لنا أوضاعا ينبغي إقامتها، ليست مثلا أعلى ينبغي للواقع أن يتطابق معه. إننا ندعو الشيوعية الحركة الواقعية التي تلغي الأوضاع القائمة حاليا نحو الأفضل"، ووصلت لقناعة أن الشيوعية هي التنفيذ العملي للماركسية. فعندما كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز البيان الشيوعي، تحدثا عن نظرية من شأنها أن تغير المجتمع، تلك النظرية هي الماركسية. وبمجرد أن يمرّ المجتمع بهذه التغييرات فإن المرحلة النهائية التي يصل إليها هي الشيوعية، واقتنعت أن النظرية الماركسية ليست فقط لتفسير الواقع بل لتغييره بشكل علمي ومدروس، ولهذا أنا شيوعي. ما أعجبني خلال قراءتي هو أن الماركسية تحوّلت إلى علم باكتشاف أمور غاية بالأهمية مثل: أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ وأن صراع الأضداد هو المحفز لكل تطور، ونظرية فائض القيمة التي كشفت سر الاستغلال الرأسمالي، وبما أنها أصبحت علمًا، أصبح من الواجب تطويرها في كل الاتجاهات، وذلك لأن العلم لا يعرف النهائية والاكتمال ويشكك حتى باليقين، فإن تجديد الماركسية عملية مستمرة، وتنبع من منهجها الديالكتيكي الذي ينظر للظواهر في حركتها وتطورها وشمولها وتحولها وتغيُّرها الدائم، وعليه فإنّ التجديد كامن في طبيعة ومنهج الماركسية، ومسألة تجديد الماركسية مع تجدُّد الواقع أمر طبيعي وماركسيٌّ بامتياز، ومشكلة تراجع الماركسية في السنوات الأخيرة خاصة بعد انهيار الاشتراكية هي في الجمود الذي جرد الماركسية من طابعها النقدي والثوري. وضعف الحركة الشيوعية بعد الانهيار السوفياتي أدى تدريجيًّا إلى ضعف الأبحاث والتحديثات في الماركسية، فمنذ كتب ماركس وانجلز البيان الشيوعي عام 1848 حتى اليوم تطورت العلوم كثيرًا، وسقطت وظهرت نظريات كثيرة، ناهيك عن المتغيرات في تركيبة الطبقة العاملة "الثورية" وتناقص عددها بعد تطور الآليات التكنولوجية، حتى أنها لم تعد هي الأكثرية في العديد من الدول المتطورة حيث أصبحت الطبقة الوسطى هي الأكثرية في هذه البلدان، ناهيك أن الرأسمالية الموجودة اليوم تطورت عما كانت عليه في القرن التاسع عشر- وإن لم تختلف بالجوهر-، حيث تم ابتكار طرق عديدة وحديثة لمنع تفاقم حدة الصراع مع الطبقة العاملة كي لا تصل لمرحلة الصدام المؤدي إلى الثورة. وهناك العديد من القضايا الفكرية التي بحاجة إلى دراستها من جديد ولا مجال لذكرها الآن، كل هذا يحتم علينا التفكير بعمق بتطوير الماركسية بما يتلاءم مع الاكتشافات العلمية الجديدة، وسيطرة العولمة والثورة التكنولوجية (التي قلبت الكثير من الموازين والتي لم يعاصرها ماركس) وسيطرت على كل مناحي الحياة، وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة معمقة وطاولات مستديرة وعصف فكري، وكل هذا ليس موضوع المقال الحالي، الذي يتركز بتطوير التفكير الماركسي سياسيًا بما يتلاءم مع المتغيرات السياسية في الواقع السياسي الاسرائيلي. نحو التغيير أم نكتفي بردود الفعل؟ عشيّة مؤتمر الحزب الـ28 لا بدّ من السؤال: هل نسعى كحزب شيوعي نحو التغيير أم نكتفي بردود الفعل وننتظر حتى تتغيّر الظروف لوحدها؟! سؤال يقلقني في السنوات الأخيرة، وإذا كان الجواب نعم فما هي الأهداف المرحلية للوصول للعدالة الاجتماعية مثلاً؟ وإذا كان الجواب لا فربما نجعل من مؤتمرنا القادم رافعة ونقطة انطلاق من أجل بناء برنامج على مراحل مع أهداف عينية لكل مرحلة. وأعتقد أن الهدف الأول للسنوات القادمة هو الانتقال من تفسير وتحليل الواقع إلى مرحلة التأثير على الواقع من أجل تغييره، لننطلق من قاعدة ثابتة راسخة لم تكن موجودة لدى رفاقنا في سنوات الخمسينات والستينات وهي ثبات الهوية الثقافية والوطنية لدى أبناء شعبنا، والهبة الأخيرة أثبتت أن غالبية الجيل الشاب يعتز بانتمائه الفلسطيني، وأننا أفشلنا السياسة الحكومية بتحويلنا إلى "عرب إسرائيل"، والمؤسسة الحاكمة بدأت بالتعامل معنا كأقلية قومية حتى لو لم تعترف بذلك رسميًا. ولكن كل هذا لا يكفي لصناعة التأثير على المجتمع اليهودي، ولهذا نحن بحاجة لدراسة كاملة لماذا لم نستطع اختراق المجتمع اليهودي حتى الآن؟ ولماذا عدد رفاقنا اليهود والعرب لم يزدد على مدى عشرات السنين؟، وإذا كان الأمر صعبًا أو مستحيلاً عن طريق الحزب الشيوعي فلماذا لم ننجح عن طريق الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة؟ ومن اللافت للانتباه أن الحزب اتخذ قرارًا ببناء جبهة شعبية واسعة، وتم إطلاق اسم لها وهي "الجبهة لمناهضة الفاشية في إسرائيل" (التفكير سليم والمشكلة في التطبيق) ولكن لم يحدث أي تقدم في الموضوع، لأنه بقي شعارًا بدون تحديد آليات وبدون تحديد أهداف واضحة تستطيع دعوة الآخرين للانضمام لها، وهنا يجب أن نسأل من المسؤول عن عدم انطلاق الفكرة؟ هل هو تقصير ذاتي أم المشكلة بالمجتمع الإسرائيلي؟ أمر ذاتي ونحن مسؤولون عنه بشكل منطقي وعلمي، تركيبة المجتمع الإسرائيلي هي الهدف الذي يجب اختراقه والتأثير عليه، ولا يمكن التحكم به فهو معطى موضوعي ولكن يمكن التحكم بأساليب العمل وابتكار طرق جديدة للعمل داخل هذا المجتمع، وهذا أمر ذاتي ونحن مسؤولون عنه، وهنا سيحتج البعض ويدعي أن غالبية اليهود من الصهاينة أو المتدينين، وهؤلاء لا يمكن التحالف أو التعامل معهم، أي يضعون أسباب الفشل لمشروع الجبهة لمناهضة الفاشية قبل المحاولة مبررين أن الظروف غير مؤاتية لإقامة هذه الجبهة، متناسين عمدًا أن مهمة الماركسي الحقيقي تغيير الظروف وأحيانًا خلقها، حتى لو أدى الأمر إلى الحفر بالصخر حتى الاختراق المطلوب، ولهذا علينا المبادرة لبناء هذه الجبهة عبر الحوار المفتوح مع كل مجموعة أو هيئة تناهض الفاشية "حتى لو كانت صهيونية"، برأيي، فمن نافل القول أن هذه الجبهة ستضم مجموعات أو شخصيات لا نتفق معها إلاّ بموضوع الفاشية مثلاً، ومن نافل القول أيضًا أن العرب واليهود غير الصهاينة وحدهم لن يستطيعوا إقامة جبهة شعبية مؤثرة تناهض الفاشية والعنصرية لأن غالبية اليهود يعرفون أنفسهم صهاينة، بالرغم من أن قسمًا منهم لا يعرف ماهية الصهيونية (ومهمتنا التمييز بينهم وتعريفهم بالصهيونية الحقيقية)، وإنما ارتبطت لديهم بمفهوم "الوطنية الإسرائيلية"، ولهذا هناك حاجة لقرارات واضحة انطلاقًا من ثقتنا بموقفنا وقدرتنا على قراءة الواقع بشكل صحيح، ولا يجوز مثلاً أن تشترط على كل من يريد الانضمام لهذه الجبهة أن يوافق على حق العودة أولًا، وهذا لا يعني أننا نتنازل عن هذا الحق أبدًا، ولكن هذا يعني أننا لا نريد التحالف إلا مع أنفسنا أو من يشبهنا، ولا نريد التحالف مع المختلف الذي نتفق معه على الحد الأدنى فقط، وهذا يعني بصراحة أن البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى إفشال المشروع أكبر من البحث عن أسباب إنجاح المشروع لأن الفشل ليس بحاجة إلى عمل. ولهذا، طالما لم نختبر كل الإمكانيات، لا يمكن الجزم أننا لن ننجح، ومن هذا المنطلق أعتقد أن سبب فشل المشروع حتى الآن هو ذاتي داخلي وعلينا مراجعة ذلك من جديد، وفي هذا المقام أضيف أنه لا يوجد ثورات فاشلة أو حراك سياسي فاشل (لأن إقامة الجبهة لمناهضة الفاشية يعتبر ثورة في السياسة الإسرائيلية العنصرية)، إنما يوجد ثورات لم تحقق أهدافها كاملة، وما حقّقته سيكون قاعدة لانطلاقة الثورة القادمة. ولأن كل عضو يستطيع مناقشة وطرح أفكاره بالمؤتمر والقرارات تؤخذ بالأغلبية، ولأن هناك ديمقراطية في انتخاب الهيئات، أنا أعتز بانتمائي لهذا الحزب، ولهذا أنا شيوعي. انجلز: يجب الكفّ عن طلب حلول نهائية يكتب انجلز، في كتابه لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية: "لا يجب أن يزعم مفكر، أيًا كان، أنه بلغ الحقيقة المطلقة والنهائية، وأن أي فكرة هي وليدة ظروف معينة قد تكون صالحة أو غير صالحة في هذه الظروف بعينها، وإذا كانت هذه الفكرة ملائمة اليوم، فقد لا تصبح كذلك غدًا. ولذلك يجب أن يكف الإنسان عن طلب حلول نهائية وحقائق خالدة". وإذا كان التجربة والخبرة علمتنا أنه لا يمكن إعطاء أجوبة الماضي لأسئلة الحاضر، يجب أن نبحث في الماضي، ونقيمه وندرس أين أخطأنا وأين قصرنا، وأي مواقف بحاجة للمراجعة، وهذه المراجعة ستكون شهادة شرف تضاف لتاريخ حزبنا القائد الواثق بخطه وأهدافه، ثم نثمن الحاضر وننظر إلى المستقبل بشجاعة وايجابية، ونبني رؤية مستقبلية يكون التأثير عنوانها، ونحن قادرون على ذلك، ولهذا أنا شيوعي ولهذا أعتز بانتمائي لهذا الحزب.
*
اضافة التعليق