فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة أروع ما في (الإنسانية ) أنها حية، تسمع وترى وتتذوق، وتشعر، مثل أي كائن حي آخر، لذلك تراها (تموت) لدى البعض من البشر، حين تنقطع عنها وسائل الحياة، وتندثر أمامها عوامل البقاء، ومبررات الوجود. وقبلها، فإن الإنسانية (تمرض) عند الذين لا يحافظون على صحتها، ويراعون سلامتها، وستكون النتيجة موتاً طبيعياً واقعاً لا شك فيه.. وما دامت الإنسانية تتنفس في الأجواء الصحية مثلنا، فهي تختنق كذلك في الأماكن الموبوءة، وهل هناك اماكن موبوءة أشد نتانة من الضمائر الميتة، والقلوب الحاقدة، والقاسية أيضاً ؟! وبناءً على هذه المعادلة، تنشأ الحروب، وتشيد الزنازين المظلمة والمعتقلات الرهيبة، وتتألف الدكتاتوريات، فتفتتح على يدها المقابر الجماعية، وتتفشى بفضلها الأمراض المعادية للإنسانية، وتنتشر الأحقاد والعداوات والبغضاء في المجتمعات كالنار في الهشيم، فحين تهب وتشتد رياح الكراهية نحو نوافذ الكون دون مصدات قوية، تمنعها من دخول حياة وقلوب البشر، تتسمم حتماً الأشياء السليمة المعافاة، وتقبح بقبحها كل جميل ساحر فاتن .. لذلك احتاط الإنسان النقي والشفاف الواضح، فأنشأ- دفاعاً عن آدميته - مصدات جمالية قبالة القبح والسواد، فكانت الموسيقى والشعر والسينما والمسرح واللوحة والرواية والرياضة، وقام أيضاً بزرع بذور الحب والعاطفة في باحات حياته، لتزهر له شجيرات من ورود الياسمين واللوتس والنرجس والبنفسج والجوري الذي يشم أريجه كل صباح، فيشعر بالعافية والحب لكل ما هو جميل وعطر في الكون البشري. ولكن يبقى السؤال المهم، هو كيف يمكن للقلوب الصدئة، واليابسة المتخشبة، بفعل انقطاع سبل الجمال عنها، أو موت سواقي المحبة في عروقها، أو ربما بسبب انشغال صاحبها بمكاسب وأطماع الدنيا، التي يسميها البعض (مشاغل المعيشة والإعالة)، فتنسى هذه القلوب نفسها، وتتعطل آدميتها، وتنقطع عن جذرها الإنساني، أقول، كيف يمكن لهذه القلوب أن تعود لنا، نحن، الإنسان، والحياة، والعاطفة، والألفة، والرخاء، والمتعة، والبهاء؟. كيف تستطيع التفاعل والتعايش ثانيةً مع (نظيرها في الخلق) كما يقول الإمام العظيم علي بن أبي طالب في رسالته - الوثيقة الأممية - الى مالك بن الأشتر، وكيف تصدم، بل وتصعق إنسانياً، وليس كهربائياً، هذه القلوب العاطلة المعطلة، والمتوقفة عن أداء دورها الإنساني في الحب والمودة والتحسس بالآخر .. وهل هناك شاحن نشحن به هذه القلوب الصدئة الميتة، لتعود لطبيعتها الإنسانية؟ في غمرة هذه الظنون المربكة فعلاً، وانثيال هذه الهواجس، والاسئلة الباحثة عن حل، والتي بات الكثير منا في موقع اليأس من العثور على حل لها، واليأس الأكبر من اجتماع الإنسانية وتوافقها مرة أخرى على أمر ما، بعد أن تأكدنا من موت هذه القلوب والضمائر البشرية، حتى جاءت ( فاجعة) اللاعب الدنماركي كريستيان أريسكن أمس الأول في ملعب (باركن ستاديون) في مباراة فنلندا والدنمارك، تلك السقطة التي أسقطت معها قلوب آلاف الملايين من البشر، والتي هزت بعنف الكرة الأرضية بقاراتها الثمان، حتى أوقفت الكوكب البشري على قدم واحدة، خوفاً ورعباً على ما حدث لهذا الفتى الدنماركي، لتزيل من قلوبنا أي شكوك وظنون بإنسانيتنا، ولتؤكد لأنفسنا قبل أن تؤكد لغيرنا أن الإنسان أخو ( نظيره) الإنسان فعلاً كما قال الإمام علي، وأن كل ثقافات الكراهية من كتب، وبرامج، ومنابر ، وسيارات مفخخة، وسيوف، ودعايات وخطب وفتاوى، قد سقطت جميعها تحت أقدام كريستيان اريكسن بحيث بات كل ما قيل ويقال غير هذه الحقيقة مجرد هراء، وكذب ليس إلّا! لقد رأينا بام أعيننا ما حصل في ملعب المباراة ذاته، وكيف بكى لاعبو فريق - فنلندا - وهم الفريق الخصم، حزناً ووجعاً على أريكسن، قبل أن يبكيه رفاقه لاعبو الدنمارك، ورأينا كيف بكى الجمهور الحاضر، والمدربون، والإداريون، والمسعفون والمعالجون، والمصورون على أريكسن، وهم لا يعرفون من هو أريكسن، ثم كيف استقبل لاعبو فنلندا والجمهور نبأ عودة الحياة الى اللاعب المصاب، وقبلها رأينا عبر شاشات التلفاز كيف وقع البعض على الأرض مغشياً عليه، من شدة الحزن والأسى لما حدث لهذا اللاعب. نعم، فقد ذهلت وأصيبت وحزنت وبكت البشرية كلها على ما حدث في مباراة الدنمارك وفنلندا، حتى بعد أن تأكدت عودة الحياة لهذا اللاعب، فلا تويتر توقف، ولا مواقع التواصل الاجتماعي هدأت ساعة، أو حتى لحظة واحدة، ولا رسائل التعاطف والتضامن الكوني والأممي انقطعت .. وهنا تكمن قيمة وعظمة الإنسانية، ويتجلى جوهرها الناصع في البياض.. لقد انتصرت الإنسانية في ملعب (باركن ستاديون) في كوبنهاكن دون أن تطلق رصاصة واحدة على خصمها، فتجددت بذلك مصابيح الحياة والجمال، وتأكد بشكل قاطع أن الإنسانية لم تمت، ولن تموت، إلا أنها ستحتاج بين فترة وأخرى الى صعقة إنسانية، ونتلة عاطفية، كما حصل في مباراة الدنمارك وفنلندا !