بغداد- العراق اليوم: كتب المحرر السياسي في (العراق اليوم) : لو أردنا ان نتحدث بصراحة، وبمكاشفة جريئة لما حدث أمس الأول، من انتشار محدود لبعض عناصر سرايا السلام في بغداد والنجف وكربلاء، وهي جناح مسلح يتبع التيار الصدري، ويمثل جزءاً من قوات الحشد الشعبي، وقد انتشرت بعد أن اعلنت قيادتها الميدانية، أن هناك تهديداً لبعض المراقد الدينية في هذه المدن، وأن أنتشارها يأتي بالتنسيق مع قيادة القوات المشتركة، والقائد العام للقوات المسلحة لمنع حدوث فتنة كبرى قد تودي بالبلاد الى ما لا يحمد عقباه. ولو افترضنا صحة هذا ( مع التحفظ)، فأننا لابد أن نتذكر دائماً ان ما حدث في عام 2006 من تفجير مرقدي الامامين العسكريين في سامراء، وما استتبع هذا من مأس كبرى، وما جره من ويلات على البلاد، وربما يكون منع مثل هذه الحوادث مبرراً لتدخل وتحرك بعض الجهات المنضبطة في سرايا السلام، أن صح طبعاً تنسيقها مع قيادتها العسكرية، وتقديمها المساعدة للقوات الأمنية في ظرف حساس، مع عدم تأييدنا لموضوع انتشار الجماعات المسلحة بشكل مطلق وقاطع لما يوفره من مناخات غير صحية بالمجمل، حتى لمثل هذه الأهداف والأغراض المعلنة، فنحن نعتقد بأن الاجدى بقيادات السرايا أن تعطي المعلومة للقوات الأمنية المختصة، لتقوم هي بواجبها في متابعة خيط المعلومات، والوصول الى الهدف، ولكن كما يبدو أن للمخاوف السابقة تأثيراً دافعاً ومشجعاً لكي تقوم السرايا بقطع الطريق بنفسها على المعلومة قبل تنفيذها، وهنا قد يكون العمل مبرراً في جزئيته هذه. والان دعونا نفترض العكس، أي أن كل ماتحدثت وادعت به قيادة السرايا، غير صحيح من الأساس، فماذا يستطيع الكاظمي أن يفعل هنا، وكيف يمكن ان يتصرف لمواجهة هذا الإنتشار المسلح؟! وهنا يجب ان نكون موضوعيين في رؤيتنا للمشهد، وأن لا نقفز على الحقائق المتوفرة على أرض الواقع.. ومن هذه الحقائق يتوجب حصر الاجابة بخيارين لا ثالث لهما، فأما أن يقوم الكاظمي بنشر جهاز مكافحة الإرهاب، وهو القوة الأمنية والعسكرية الضاربة، والاصطدام المسلح بهذه الجماعة في الشوارع، وهنا ستسيل الدماء غزيرة في بغداد والنجف وكربلاء، ومن ثم كقطع الدمينو تتساقط المحافظات التي فيها للتيار الصدري شعبية واسعة، وتبدأ صفحة من صفحات حرب الشوارع التي قد لا تنتهي على خير أبداً، فهل هذا هو الحل الصحيح والمطلوب؟، وهل سيرضى الشعب العراقي بعامته عما حدث، وعما أريق من الدماء؟ ولو افترضنا ان الكاظمي أمر بضرب المسلحين بقوة كما يشتهي ويتمنى البعض، وحدثت الحرب بين القوات المسلحة، وهذه الجماعات المسلحة، والتي تحظى بصراحة بجماهيرية واسعة في المدن الشيعية على وجه التحديد، فمن سيقف مع الكاظمي في حربه المدمرة هذه، خاصة وأن التيار الصدري على سبيل المثال، يملك قواعد شعبية وجماهيرية، وتمثيلاً سياسياً، ومواقع رسمية مؤثرة في أغلب مؤسسات الدولة. إن ثمة من يتحدث هذين اليومين عن كرامة وهيبة الدولة -وهو حديث مشروع دون شك- وقد تتساءل أنت أيضاً عزيزي القارئ، ومن حقك ذلك، لكن دعنا ننشط ذاكرتنا قليلاً عن هذه الهيبة، وسنجد ان هذه الكرامة والهيبة للأسف "مثلومة" منذ عهد نظام صدام حسين، وأستمر يتفاقم هذا الأمر حتى الساعة، فقد ثلمت كرامة وهيبة الدولة مرات ومرات للأسف خلال العقود الماضية، ولم يكن التيار الصدري وبجناحه المسلح هو من ثلم وحده جزءاً من هذه الهيبة، فهذه الهيبة مخترقة ( داخلياً ) من باقي الجماعات والمليشيات المسلحة التي تمارس جزءاً من الأفعال غير المبررة كل يوم، و( خارجياً ) هي مخترقة من تدخلات ايرانية وتركية (وجود عسكري في شمال العراق) وأمريكا واغلب الدول المجاورة، وهذا أرث تسلمه الكاظمي ولم يصنعه الرجل، أو يساهم فيه، بل على العكس، فقد كان الكاظمي أول رئيس وزراء عراقي رفع " شعار السيادة" كمفهوم وبرنامج بعد أن استشعر بهذا الخطر المهدد لكيان الدولة واستقرارها وقوتها. ثم دعونا نتساءل ونوجه سؤالنا الى من يرفعون عقيرتهم في الدفاع عن الهيبة والكرامة، هل سيرضون مثلاً بما فعله رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، حين اصطدم بالتيار الصدري عسكرياً، وما جر على هذه البلاد من ويلات حرب دامية، ومشاكل لا تزال قائمة لغاية اليوم؟، وماذا سيفعل المالكي لو كان بمحل الكاظمي الآن؟، هل يستطيع تكرار ما حدث في 2008، مؤكداً، أنه لا يستطيع فعل أي شيء، لأن الظروف الآن غير الظروف التي كانت ذلك الحين، ونفس الشيء مع الرؤساء السابقين، بل سيضطر أي رئيس وزراء آخر الى اتخاذ نفس خطوات الرئيس الكاظمي، لسبب بسيط، هو أن البديل عن ذلك: حرباً أهلية لن تنتهي ! لقد مارس الكاظمي عملية ضبط نفس يحسد عليها، وأجرى حسب معلوماتنا اتصالات عاجلة، وتنسيقاً مخابراتياً مهماً، وقد نجح في تطويق هذا الحدث الخاطئ، خلال وقت قصير جداً، دون فتح ثغرة كبيرة في الجدار الأمني، قد يستغلها تنظيم داعش المتربص لمثل هذا الخرق الداخلي الذي سيسهل له الانقضاض ثانيةً على الدولة، واحتلال اراضيها. وللحق، يجب الاعتراف بأن القائد العام للقوات المسلحة عالج الأمر بعقلية القائد الذي يتجنب الوقوع في خيار الحرب، لاسيما الداخلية منها، ما دام للحوار والضبط والعقل فرصة، وما دام هذا السلاح، يمكن أن ينضم لحماية الدولة، لا ضدها، ولا يستخدم لبسط نفوذ سياسي أو مالي، مع تأكيدنا الثابت ان اي عملية انتشار امني يجب ان يكون قرارها بيد رئيس الوزراء، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكن لو حدثت المواجهة، فأنها ستنتج قتلى، وسيجر هولاء القتلى قتلى أخرين وراءهم، وسننتهي ببحر من الدماء الذي لا ينتهي، بل قد ينتهي بسقوط الدولة برمتها على رؤوس الجميع. يجب ان لاننسى أن الدولة كانت تتعرض للاهتزاز مرات ومرات في ايام تنظيم القاعدة وطوال عشر سنوات، حيث كان ينتشر ويسيطر في مناطق بغداد، ويمارس عمليات قتل وتهجير طائفي بغيض، وكانت هيبة الدولة قد تعرضت أيضا لأكبر انتكاسة في 2014 على يد تنظيم ارهابي (داعش) الذي احتل اراضيها، وادخلها في حرب دامية لسنوات، ولا يزال داعش يعيث فساداً كلما سنحت له الفرصة، مستغلاً أي انشغال جانبي عنه. ان ما حدث وما تم تطويقه من قبل رئيس الوزراء، هو عين العقل والمنطق السليم، فرئيس الوزراء الحالي لا يملك مليشيا مسلحة، أو يتبعه فصيل مسلح، ولا يملك كتلة نيابية متنفذة، وحتى لو كان يمتلك، فأنه لن يملئ شوارع بغداد والنجف وكربلاء وباقي المحافظات بالجثث، في وقت يسعى هو لانهاء صفحة العنف الأهلي، واخضاع السلاح خارج الدولة لها من خلال قنوات الثقة وتقوية وتعزيز الأجهزة الأمنية والعسكرية. هو ليس دفاعاً عن الكاظمي، لكننا نرى أنه تصرف بحكمة رجل الدولة المسؤول، ولم ينجر وراء "عنتريات" اعلامية تحرض لتملئ شوارعنا المتعب دماً عبيطاً، لاجندة وأسباب هي تعرفها، ونعرفها نحن ايضاً.
*
اضافة التعليق