وهو يحقق خرقاً إيجابياً في سياق العلاقة التركية العراقية، لماذا نجح الكاظمي في تركيا، وفشل غيره من الرؤساء السابقين ؟

بغداد- العراق اليوم:

بجردة حساب بسيطة، سنجد أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حمل معه ثمانية ملفات شائكة ومن الوزن الثقيل، وهو يستقل الطائرة التي أقلتهُ الى العاصمة التركية أنقرة، حيثُ كان بانتظاره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عند باب السيارة.

لقد  كانت حقيبة الكاظمي مثقلة فعلاً بملفات على مستوى مهم، بل أن بعضها كان خطيراً، ومن بين ما حملت حقيبته موضوعات الأمن والاقتصاد والاستثمار والطاقة والمياه والربط السككي بين البلدين، والأموال العراقية المجمدة لدى تركيا، فضلاً عن ملفات اخرى لا تقل أهمية عما ذكر، حيثُ ان العلاقة مع تركيا خلال الأربعة عقود الأخيرة على الأقل ليست ودية، أن لم تكن قد وصلت الى مستويات عالية من التوتر، فكيف استطاع الكاظمي ان يحرز تقدماً لا تزال الصحافة التركية والعربية تقدمهُ بتفاصيله الدقيقة، وهي تشير الى تحقيق اختراق ملحوظ في مستويات التفاهم التي حدثت فيما علقت وسائل اعلامية عربية مرموقة على المخرجات بأنها " أتت في ظرف حساس ومفصلي في تاريخ المنطقة برمتها".

في نظرة تاريخية الى مسار العلاقة التركية – العراقية سنجد ان متحكمات ثلاثة تتحكم في شكل العلاقة الثنائية بين البلدين، هي ملف المياه والاقتصاد والأمن الذي يؤثر في المتُحكمين الأول والثاني بشكل ملحوظ، بمعنى أن العلاقة قائمة بدرجة كلية على طبيعة الوضع الأمني السائد بين البلدين الجارين.

ايضاً لنفهم بسرعة ان تركيا من اكثر جيران العراق اشتباكاً معه في ملفات كثيرة ومتعددة ومعقدة، على عكس ما يتوقع الكثيرون، فعلاقات العراق مع جواره العربي طبيعية او تكاد تكون معدومة المشاكل، كسوريا والأردن والسعودية وحتى الكويت، وإيران ايضاً لديها عمق ومصالح، وقد إستطاع العراق ان يُحيد الكثير من المشاكل معها، لكن تركيا لديها ارث كبير من المشاكل مع العراق، لذا تكتسب زيارة الكاظمي هذا البعد من الأهمية الاستراتيجية، ليس على مستوى العراق فحسب بل وعلى مستوى الإقليم برمتهِ.

واذا ما فهمنا هذه الخلفية التاريخية فسنجد ان الكاظمي نجح في تحقيق اكثر من 80% من النتائج في اغلب الملفات، والنسبة ترتفع فيما يتعلق بالاقتصاد على وجه خاص، حيث نجح في اعادة تفعيل اتفاقية الغاء التأشيرة بين البلدين، وأيضاً تفعيل المجلس الاعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، والدفع قدماً باتجاه تدفق الرساميل التركية نحو العراق للاستثمار، فضلاً عن تنشيط التبادل التجاري، وتجاوز تبعات فايروس كورونا على الاقتصاد العراقي الذي ساهم في انكماش القطاع الصناعي المشترك بين البلدين، وأيضاً نجحت الزيارة في وضع أطار شامل لإعادة تفعيل ضخ النفط العراقي عبر جيهان التركية، مضافاً لهذا بحث الكاظمي بشكل حقيقي وجدي في الأصول والأموال العراقية المجمدة لدى تركيا.

فيما يتعلق بملف المياه، وهو ملف حيوي جداً، ويمثل للعراق أمناً قومياً واستراتيجياً، فأن الكاظمي اثار الموضوع بشكل واضح وصريح مع الرئيس التركي أردوغان، الذي وعد أن يكون هذا الملف مجالاً للتعاون، لا مجالاً للتقاطع، وأن لا تستخدم تركيا ملف المياه في أي تدافع سياسي او تقاطع اقليمي، وأن يكون الاستخدام الفعال لمياه دجلة عنواناً لشكل العلاقة المائية بين البلدين الجارين.

لقد حققت الزيارة التي كان الأتراك ينتظرونها من الكاظمي منذ فترة طويلة، كل هذا النجاح، لأن الرجل كان واضحاً في علاقته ومباحثاته مع أنقرة، وقبل ذلك، فهو لم يتقدم خطوة واحدة تجاهها، الاً بعد أن اوقفت تركيا بعض التصرفات والاستفزازات المتكررة، رأت فيها أوساط دبلوماسية واعلامية تركية بأنها مهمة للغاية، كون الكاظمي شخصية لا تمثل محوراً أقليمياً في العراق، وليست محسوبة على جهة دون أخرى، لذلك كانت النقاشات منكبة على الداخل التركي والعراقي بشكل اساس، وأن كل ما مُرر من اتفاقات ومذكرات لم يُلحظ فيها أي بعد غير البعد العراقي – التركي.

فيما ترى أوساط عراقية، أن الزيارة كانت ناجحة ومختلفة عن الزيارات التي سبق وان قام بها رؤساء حكومات سابقون الى تركيا، فالكاظمي لم يتحدث نيابة عن مصالح هذه الدولة، او تلك، بقدر ما كان يحمل اجندة وطنية عراقية خالصة، وقد استطاع ان يفرض رؤية عراقية في كل المباحثات التي قادها أو اشرف عليها شخصياً مع الجانب التركي، والشيء بالشيء يذكر هنا، فقد إنتبه الأتراك الى (الخصوصية العراقية البارزة) في شخصية مصطفى الكاظمي، فقاموا بإعداد طعام عراقي، وتقديم أكلات عراقية على موائد العشاء، بحيث أضطر الرئيس التركي الى تناولها أيضاً، كما جاءوا بمطرب تراث من أصول عراقية، ليقدم مجموعة من الأغنيات التراثية العراقية أمام الكاظمي والوفد العراقي اثناء فترة العشاء، وهو أمر لم يحدث مع أي مسؤول عراقي من قبل منذ عهود نوري السعيد حتى يومنا هذا .

لذا، فإن هذه الأبعاد التكريمية والإحتفائية كانت مهمة جداً للتعبير عن استعداد الجانب التركي للتعاون مع الكاظمي في حسم الكثير من الملفات بشكل مرن ومتوازن وودي، واذا ما اضفنا اليها أيضاً الأبعاد الموضوعية الأخرى، فسنرى ان الكاظمي يمثل شخصية وطنية مدنية التوجه، مستقلة وديمقراطية المنهج، يسهٌل على تركيا التعامل معه، فالرجل يمثل العراقي المسلم "الشيعي والسني" ويمثل المسيحي والصابئي والأيزيدي، لذلك تجد أن الرئيس أردوغان (الزعيم الأخوانجي)  يتعامل معه بأريحية تامة ودون أي حساسية عقائدية معينة، فهو أمام قائد عراقي وطني حر غير تابع بالمرة وللإضافة، فإن اردوغان يحمل عن الكاظمي تصورات مهمة ابان عمله في رئاسة جهاز المخابرات الوطني العراقي، حيث كان يعمل بشكل دؤوب على مكافحة الإرهاب والمخدرات والعصابات الدولية وغيرها، وقد أسهم تعاونه مع الجانب التركي بشكل فعال في مكافحة هذه المشاكل العابرة للحدود، كما كان دوره في التعاون الإقليمي والدولي لصالح العراق أيضاً.

مخرجات غير مسبوقة

وتعليقاً على مخرجات الزيارة أيضاً، يرى المحرر السياسي للعراق اليوم أن " الزيارة تكتسب أهمية خاصة ايضاً نظراً للظرف الأقتصادي العصيب الذي يمر به العراق، وبحثه بكل صدق وجدية عن شركاء اقليميين قادرين على معاونته في تجاوز الأزمة الأقتصادية والمالية التي يمر بها الآن، لذا فأن الرئيس الكاظمي يحمل توجهاً حقيقياً لدعم ملف الاستثمار، وأجتذاب رؤوس الأموال التركية بشكل حقيقي، لاسيما ان الرئيس التركي بذاته لديه شبكة مصالح اقتصادية ومالية تستثمر في بقاع مختلفة من العالم، فضلاً عن قطاع صناعي تركي نشط يبحث عن فرص تنافسية".

ويلفت الى أن "الرئيس التركي رجب طيب اردوغان تصرف هذه المرة بلياقات استثنائية خاصة، وحاول كسر البروتكول المحنط، حيث حاول اضفاء نوع من علاقة الأخوة والصداقة العميقة على اجواء الزيارة، منذ لحظات تقدمه السريع الخطى نحو سيارة الرئيس الكاظمي اثناء الاستقبال الرسمي المهيب الذي جرى، الى محاولته ملاطفة ضيفه بتعديل ياقة القميص، وصولاً الى اقامة مأدبة طعام فخمة على الأنغام والأغاني الفلكلورية العراقية المميزة، وبينهما استضافته مع عائلته الشخصية، حيث حرمه واولاده واحفاده في المنزل الشخصي لأردوغان الذي قال بهذه الرسائل الواضحة، أنه يثق كثيراً بهذا الرئيس، وأن يفتح له أبواب تركيا العامة، فضلاً عن أبواب الرئاسة الشخصية، مما يعني أننا سنلمس قريباً جداً قفزات نوعية في مثل هذه الزيارة التاريخية في مسار علاقات العراق وتركيا منذ 100 عام على اقل تقدير".

علق هنا