بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي إفتتاحية جريدة الحقيقة
ليس سراً أحرقه حين أقول أن الكثير من الزعماء والقادة والمتنفذين (المستبدين) لا يحبون لعبة كرة القدم، ليس لأنها (قبيحة) ولا تفتن أفئدتهم لا سمح الله، ولا لأنهم لا يفهمون (معنى) جمالها، إنما لسبب واحد فقط، هو أن لعبة كرة القدم زعيمة مستبدة في التأثير والسحر والجمال وكسب قلوب مئات الملايين في العالم. ولأن المستبد الطاغية لا يمكن ان يرى زعيماً غيره مؤهلاً للتسيد على الملعب السياسي والإقتصادي والإجتماعي،بإعتباره هدية سماوية الى عباد الله الصالحين، فضلاً عن كونه (الشيء) الوحيد القادر على أن يأتي بالملايين البشرية راكضة نحوه بتحريك إصبع من أصابع كفه الكريمة، لذلك كان المستبدون يعرضون تبريرات مضحكة بحق كرة القدم ولاعبيها وجمهورها، فمثلاً كان الرئيس معمر القدافي يكرر قوله مرات عدة بأن (أمراً مضحكاً أن تجد 22 شخصاً عاقلاً يركضون خلف كتلة مطاطية تقفز على الأرض، فيتقافزون مثل القرود خلفها، وأن تجد ملايين الناس يتفرجون بجنون على هؤلاء القرود)! لكن الغريب أن نجد أيضاً ان نجل القذافي نفسه أصبح واحداً من هؤلاء القرود، يعني أصبح لاعب كرة قدم، بل ومحترف أيضاً ! إذن، فإن المشكلة تكمن في أن كرة القدم ليست لعبةً للقرود فيكرهها القذافي وأمثاله من المستبدين، إنما فقط لأنها تحرر الملاييين من أتباع هؤلاء الطغاة، وتجعلهم أحراراً في توقهٍم الإنساني، ورغباتهم الحياتية، وخياراتهم الشخصية الحرة، فتبعث بهم الى عوالم جمالية وإنسانية حقيقية، غير عوالم ( بالروح بالدم نفديك يا زعيم)! وحين يتحررون من هذه التبعية المذلة، بفعل السحر والفن الكروي المشروع، سيفقد الطغاة المستبدون جمهورهم وأتباعهم شيئاً فشيئاً، لذلك تجد أحياناً بعض الزعماء والقادة يشجعون اللعبة - ظاهرياً - وهم غير راغبين في هذا التشجيع، لكن ذلك يحصل من باب ( مكره أخاك لا بطل) ! سقت هذه المقدمة الطويلة لأدلل على فتنة وروعة وسحر كرة القدم، وأنا أتابع مصدوماً تداعيات الرحيل الفاجع لإسطورة الجمال الكروي (مارادونا )، وكيف صعق الكون البشري كله بهذا الرحيل السوداوي، فرغم أن الرجل ليس صغيراً في العمر، إذ أنه أحتفل قبل أيام قليلة بمرور 60 عاما على ولادته، لكن العالم كله أصيب بالذهول والدهشة لهذا السفر المبكر، وكأن الجميع لا يريد أن يصدق نبأ الفجيعة- وأنا واحد منهم -. فلماذا تحسس العالم كله مرارة الفقد، وشعر بوجع الأسى يدق على فؤاده بغياب مارادونا، وليس بغياب أي زعيم سياسي، أو إمبراطور، أو ملياردير، أو حتى عالم من علماء الدين، أو عبقري من عباقرة الإقتصاد أو الطب، أو غير ذلك؟ لماذا يفجع العالم برحيل هذا الفتى الذي قضى نصف عمره في جلسات الحشيشة والمخدرات، ولم يفجع مثلاً برحيل القائد الفلاني والزعيم العلاني، وقد رحل منهم الكثير خلال هذه السنة الكارثية؟! لماذا تعلن الارجنتين وايطاليا وكوبا والمكسيك وبلدان عدة، الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام أساً وحزناً على وفاة هذا (القرد) - حسب توصيفات القذافي - ! لماذا تنكس بريطانيا علمها الوطني فوق مبانيها إجلالًا لرحيل اللاعب الذي (غش) فريقها وجمهورها، وغش حكم المباراة التي لعبتها بريطانيا أمام منتخب الأرجنتين في كأس العالم عام 1986، حين مرر الكرة بيده نحو المرمى الإنكليزي، في حركة فنية سحرية، قال عنها البعض أنها أجمل من أن يلعبها بقدمه؟! لماذا تصاب القارات السبع أو الثمان بالفجيعة لرحيل هذا الفتى المخبول، ولا تفجع مثلاً بغياب زعمائها وقادتها التأريخيين، ولماذا ينفطر قلب الكرة الأرضية بموت حشاش وغشاش وفتى مهووس بجيفارا وماوتسي تونغ، حتى أنه (طبع بالوشم صورتيهما على جسده) ولم ينفطر قلب الكرة الأرضية على وفاة الرئيس حسني مبارك مع إنهما توفيا خلال فترة متقاربة؟ السبب بإعتقادي بسيط جداً: يتمثل في أن مارادونا وأمثاله يصنعون لنا الجمال، والمتعة والحياة مجاناً، بينما يصنع الطغاة القبح، والموت والمآسي والإضطهاد، وبثمن عال قدره حياتنا وحياة أطفالنا، والأجيال القادمة !
*
اضافة التعليق