بغداد- العراق اليوم: في حلقة سابقة استعرضنا جزءاً من الملفات التي تصدت لها الحكومة الثامنة بعد 2003، التي شكلها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في ظروف بالغة التعقيد، عن تلك التي تشكلت فيها نظيراتها السابقات في هذا المخاض الديمقراطي المحمل بعبء التاريخ، وبحاضر الجغرافيا الصعبة، والجوار المتداخل جداً، والشارع الغاضب، والجمهور المُحبط، والسلاح المنفلت، وغياب الحدود الفاصلة بين الدولة وضدها، وتناقض الشركاء في تحديد البوصلةً، في الوقت الذي يريد قسم كبير من القوى السياسية المؤثرة في المشهد، ان يكون العراق جزءاً من لعبة أقليمية – دولية، بينما تلعب قوى أخرى على وتر الزمن البائد، مستخدمة كل أمكاناتها وأمتداداتها (القومية – الطائفية) لإجل استعادة النظام القديم، والتعبير عنه مجدداً للأسف الشديد. وسط كل هذا، ثمة نزعات انفصالية كامنة تارةً وظاهرة في أخرى، تبرز في ثنايا التحركات السياسية المواربة لفصيل ثالث، وهكذا كان وصف رئيس هذه الحكومة دقيقاً حين قال أنه " يسير على حبل بين عمارتين شاهقتين، والأدهى أنهُ مطلوب من الرجل ان يسير على هذا الحد الخطير، على دراجة كما يعبر، بمعنى أنه يريد أن يجتاز بمن معه (أي الشعب) لدغ الثعابين، التي سيضطر الكاظمي أن يقول عنها في حديث شهير للغارديان البريطانية : " أرقص يوميا مع الثعابين، ولكني أبحث عن مزمار للسيطرة عليها". بهذه الخلفية المعقدة والمثيرة، يعمل رئيس وزراء بحكومة جاءت من حضن ثورة شعبية لا يزال أوارها متصاعداً، والبيئة المنتجة لها تزداد غضباً واتساعاً، بسبب الفقر والأزمة الأقتصادية، وسياسات التوظيف السياسي للموارد المالية، وتحول الدولة الى مؤسسة رعاية اجتماعية (مُعطلة)، وتساهم في تعطيل دوران عجلة اقتصاد حقيقي، بل تعتمد على ريع محدود، ناتج عن بيع نفط خام في أسواق متأرجحة، وعالم يحقق قفزات في سبيل التخلص من هذا الوقود العضوي، والتحول الى طاقة نظيفة. أن من يريد أن يستعرض تحديات حكومة الكاظمي سيحتاج الى ان يُسيل الكثير من الحبر، الا أن هذه التحديات الجمة، تواجه الآن بقوة وصبر، ومزيد من العمل الدؤوب من قبل رئيس وزراء شاب، لديه شعور عال بمسؤولية اخلاقية، ووطنية يحملها، فضلاً عن ثقافة وطنية مؤمنة تماماً بإمكانية ان تعبر الشعوب الحية ذات العمق التاريخي والحضاري كبواتها، وأن تصحح مسارها مهما تكالبت عليها التحديات وإستطالت الأزمات.. لذلك نرى أن الكاظمي يستحق أن نمنحه بعض الصبر، ونفسح له بعض الطريق، مهما إختلفت عقائدنا، وتباينت إنتماءات بعضنا، خاصة وإن القطار المضطرب الذي يقوده الكاظمي اليوم، مزدحم بالمشاكل الامنية والفنية، والسكة التي تسير فوقها عرباته، ملغومة بعشرات المعوقات والعراقيل. لذا يتوجب علينا أن نكون محايدين تجاه الرجل إن لم نفكر بالإنحياز له، ومن أهم مزايا هذا الحياد، أن نقيس نجاح حكومته بالنتائج على الأرض وليس بغيرها، فإيقاف إتساع الحريق الهائل الذي اندلع بعد تشرين 2019 وإيقاف التداعي الأمني المريع الذي كاد ان يؤدي بالبلاد الى حرب أهلية طاحنة، هو جزء من مسؤولية هذه الحكومة ونجاحها، ويحسب لها أن استطاعت ان توقف هذا التفجر العنيف، وتضبط الأوضاع حتى تمكنت من سحب فتيل قنبلة الغضب الذي أُريد له أن يتحول لمعركة طاحنة تجتاح المُدن الأمنة، وتعيد تجربة النزوح والتشرد والضياع لملايين اضافية من العراقيين، ولكن هذا السيناريو المُخيف احبطته ولادة هذه الحكومة، ولا تزال تعمل على تفكيك مفاعيله ببرنامج وطني (بطيء ربما) لكن اثره طويل المدى، وسيظهر في مستقبل البلاد القريب، فضلاً عن تأمين حاضرها بالحدود المقبولة على الأقل.. فلماذا لا نتحدث عن هذا العمل الوطني الجبار الذي أدته حكومة الكاظمي بمهارة وصبر عال. وللحديث صلة ..
*
اضافة التعليق