بغداد- العراق اليوم:
الدكتور صباح ناهي باحث وكاتب عراقي يبدو السؤال بسيطاً، لكنه أعمق من أن تتم الإجابة عنه على عجالة، في موجة تظاهرات الأمس التي تهيأت لها كل الأطراف في السلطة وخارجها، وبنوايا متناقضة، في مفارقة لافته بأن الحكومة التي يحتج الشعب عليها تسانده وتدعو إلى مؤازرته وتأييد منهج الاحتجاج في انتفاضة أكتوبر التي وصفها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بـ "صرخة وصولة تجسدت في وجوه الشباب والشابات، النساء والرجال، الشيوخ، حتى الأطفال الذين سجلوا أسماءهم على صدر التاريخ، ونحتوا بدمائهم الطاهرة طريقاً. نحو المستقبل" على حد كلمته التي وجهها عشية استعداد العراقيين للتظاهر ضد الحكومة بشعار معلن من قبل المحتجين هو اقتحام المنطقة الخضراء التي تتمركز فيها الرئاسات الثلاث وبعض المسؤولين المتهمين بالفساد وضياع المليارات في مشاريع فاشلة وعقود وهمية.
لعل الكاظمي الذي شدد علناً بعدم فتح النار على المتظاهرين، يتخيل أن الاحتجاج لا يطاله لأنه مكلف بمهمة واحدة، وهي تأمين مستلزمات إجراء انتخابات نزيهة، من القوى التي اتفقت على ترشيحه، لكنه لم يتوانَ عن غمز الحكومة السابقة بقوله، (تسلمنا ملفاً اقتصادياً مثقلاً بالسياسات الخاطئة والموجعة، وخزينة أفرغها غياب الاستراتيجيات الاقتصادية والاعتماد الكلي على النفط)، لكن خصومه في البرلمان اتهموه بالاستحواذ على المناصب، وتعيين أقاربه وبعض المقربين منه في مناصب الدولة كما قال النائب عن كتلة الفتح "الولائية" سعد الخزعلي الذي اتهمه بالخروج على الاتفاق مع الكتل التي مكنته من الوصول إلى رئاسة الحكومة.
في وقت دعت المنظمات المهنية والنقابية إلى كشف قتلة المتظاهرين، وتقديمهم للعدالة والاقتصاص منهم، كما يؤكد ضياء السعدي نقيب المحامين العراقيين الذي دعا إلى ما أسماه "تفعيل حقيقي للجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الحكومة أخيراً للعمل على الاستماع لذوي الضحايا والجرحى والمتضررين وجمع الأدلة وتقديمها للقضاء العراقي".
نقل مسرح التظاهر من الرصافة إلى الكرخ
أما القضية اللافتة في تظاهرات الأمس، انتقالها من جانب رصافة بغداد إلى كرخها في محيط مقرات الحكومة ورئاسة البرلمان، الذي بدت قاعته فارغة من الأعضاء وهو يناقش قانون الانتخابات والدوائر الانتخابية المثيرة للجدل، التي جاءت محبطة للجمهور الغاضب بتقسيم الدوائر الانتخابية، وفُسر ذلك بأنه خشية وصول المتظاهرين لمقره واقتحامه.
وفي وقت طالب الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول المحتجين بعدم التظاهر خارج ساحة التحرير، حرصاً على سلمية التحركات، تدفقت الحشود إلى قلب الكرخ في منطقة (علاوي الحلة)، قادمة من المناطق الوسطى والجنوبية من العراق وشكلت تحدياً جديداً للسلطة، حيث تعمل إدارات سياسية خارج منظومة الحكم على تطويق المنطقة الخضراء بحزام بشري، تخطت الدعوة لإسقاط الحكومة إلى إسقاط العملية السياسية، التي وصفها المتظاهرون والناشطون بالفاشلة، وأنها قامت على مركب المحاصصة السياسية التي يسعى الكاظمي لتجاوزها في ظل تمسك القوى الولائية على إبقائها كمخرج للسيطرة على القرار الحكومي لقوى اللادولة من أتباع الدولة العميقة التي تغلغلت في جسد الاحتجاجات، وأحاطتها بالميليشيات المدنية التي قالت عنها الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت بأنها مخترقة بنسبة تزيد على 80 في المئة.
لا شك أن هذه النسبة جعلت قيادة التظاهرات تغادر ساحة التحرير في قلب بغداد لمناطق أخرى واختيار جانب الكرخ بعيداً عن سطوة الأحزاب واتباعها، ممن يحولون دون وصول أعداد المتظاهرين إلى الساحات القريبة من المنطقة الخضراء بأوامر قياداتها.
جدل واسع يدور حول جدوى تظاهرات تعتمد الهتاف والغناء للوطن أمام سلطة تبدو غير مكترثة، لكنها في تباين واسع في توظيف التظاهرات التي ظلت ملهمة لجيل مسيّس غير واضح الأهداف، يصرخ علناً بأنه يريد وطناً، وناقم على الفساد وفقدان الأمل بإصلاح الطبقة السياسية الحالية، ويخشى كثيرون من موجه عنف جديدة ضدها، وهي محاطة بوعود رئيس الحكومة بالإنصاف لها ولشرعيتها، ورئيس برلمان يسعى لفرض قانون انتخابي، ومناطق انتخابية مثار جدل، ورئيس دولة واجبه حماية الدستور، إزاء دولة عميقة ترى في التظاهرات تحركاً مضاداً لها تقوده الولايات المتحدة لإسقاطها، بدورة برلمانية خارج هيمنتها، وموالية للغرب، بجيل ناقم تغريه الديمقراطية ويرفض الهيمنات كلها.
*
اضافة التعليق