بغداد- العراق اليوم: يبدو أن الكاظمي، وبعد أن ( ضبًط ) أوضاعه الأمنية والعسكرية الخاصة، كما ذكرنا في مقال سابق، وبعد أن تسلح بدعم وتأييد مطلق من قبل المتظاهرين والمحتجين ومن قبل القوى الوطنية السياسية كالحزب الشيوعي العراقي، بعد أن أعلنوا جميعاً دعمهم له في مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين الكبار قبل الصغار، ولعل الدعم الأقوى والأشد تأثيراً في عموم الشارع والمجتمع العراقي، جاءه من قبل مرجعية النجف عبر البيان الذي صدر من مكتب السيد السيستاني، والذي طالب فيه بشكل واضح، حكومة الكاظمي بضرب الفساد في أقوى حلقاته، معرباً في ذات الوقت عن دعمه وتأييده لاي إجراء يمضي في هذا الإتجاه، لذلك قرر الكاظمي، وفعل هذه المرة، ما لم يفعله أحد غيره، وأقصد عبوره فوق الخطوط الحمر ، وتجاوزها دون تردد بل وقام بالصعود بجسارة نحو أكبر، وأعلى الرؤوس في البلد، بحيث أبدى بعض محبي الكاظمي خوفهم عليه مما سيحدث بعد توالي وتواصل عمليات الإعتقال التي قامت بها لجنة التحقيقات في مكافحة الفساد ضد مسؤولين متهمين بقضايا فساد كبيرة، لكن الحقيقة تقول أن هذه العمليات الجسورة بثت الرعب في أفئدة قادة الطبقة السياسية في البلاد، لاسيما الذين تورطوا هم أو أتباعهم في صفقات ومشاريع يشوبها الفساد، مما جعلهم في هلع وإضطراب من أي إجراءات تتعلق بالنزاهة، في مقابل توق الشارع إلى ضرب هؤلاء الفاسدين الكبار، في وقت بدا فيه أن تسارع الاعتقالات، لتطال وسطاء ووكلاء لشخصيات كبرى، رسالة عن اقتراب رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي من مواجهة الحيتان الكبيرة وجهاً لوجه. ومنذ 2003، بدد المسؤولون والساسة الفاسدون في العراق نحو ألف مليار دولار من المال العام، دون أن يتطور أي قطاع خدمي في البلاد. ويعاني العراق كل عام في موسم الصيف بسبب سرقة الأموال المخصصة للكهرباء، بينما لا يزال يعتمد على مستشفيات ومنشآت صحية بنيت في منذ عهود سابقة، إذ جرى إهدار مليارات الدولارات الموجهة لهذا القطاع بعد 2003، فيما يرزح قطاع التعليم تحت ضغط قدم المنشآت ودخول الأحزاب على خط الاستثمار من خلال المدارس والجامعات الأهلية، بينما تختنق بغداد بشكل يومي مراراً بسبب الزخم المروري، لأنها ما زالت تعتمد على طرق وجسور جرى إنشاؤها في عهد المقبور صدام. ووصل العراقيون خلال الأعوام الأخيرة إلى الاقتناع بأن القضاء على الفساد السياسي والمالي والإداري في العراق أمر مستحيل، بعدما تيقنوا من أن استمرار وجود الأحزاب السياسية يعتمد بشكل تام على ما يسرقه ممثلوها من الدولة، حتى أن بعض النشطاء اقترحوا تقنين الفساد، كأن تحدد الموازنة السنوية حصة كل حزب من المال العام، كي يتسنى للدولة أن تحصل على ما يمكن أن تستخدمه لخدمة السكان. وتصدرت محاربة الفساد مطالب أوسع حراك جماهيري شهده العراق خلال تشرين من عام 2019، عندما تورطت حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، بالشراكة مع عناصر مسلحة، في قتل نحو 700 متظاهر، وإصابة نحو 20 ألفا آخرين، في سبيل حماية نظام الأحزاب الفاسدة في البلاد. وسلط حجم الممانعة الذي أبدته حكومة عبدالمهدي ضد فكرة إسقاط النظام القائم أو استبداله أو حتى تصحيح مساره، الضوء على كمية المكتسبات المالية التي تملكها الأحزاب والتيارات السياسية. وعندما شكل مصطفى الكاظمي حكومته، بعدما أرغم المحتجون سلفه عبدالمهدي على الاستقالة، علّق الشارع آمالا كبيرة على رئيس جهاز المخابرات السابق في اجتثاث الفاسدين، بسبب سمعته الطيبة في الأوساط الشعبية. لكن حملة الكاظمي المنتظرة ضد حيتان الفساد تأخرت كثيرا، ومع ذلك عندما لاحت بوادرها خلال الأيام الثلاثة الماضية، حظيت بتعاطف شعبي واسع. وبدأت الحملة باعتقال مسؤول من المستوى المتوسط، هو مدير دائرة التقاعد أحمد الساعدي، ما أثار تساؤلات بخصوص الأهداف التي يمكن للكاظمي أن يصل إليها، وجديته بشأن ملاحقة الكبار. لكن الإثارة تضاعفت عندما ألقي القبض على بهاء عبدالحسين مدير شركة “كي كارد” المعنية بتسهيل صرف رواتب المتقاعدين وهو يهم بالهرب من مطار بغداد بعد يومين من القبض على الساعدي. وقالت مصادر مطلعة إن الساعدي أدلى باعترافات قادت إلى كشف شبكة واسعة لغسيل الأموال، تخدم مسؤولين وساسة وأحزاب، وتعتمد على متعاونين في بيروت. وتسبب اعتقال عبدالحسين بضجة كبرى، وذلك للصلات القوية التي تربطه بمسؤولين سابقين وزعماء حاليين. وتشير المصادر إلى أن اعتقال عبد الحسين قد يقود إلى اعتقال شخصيات أخرى واستعادة أموال من الداخل والخارج. وشملت حملة الاعتقالات الجديدة أيضا مدير المصرف الزراعي عادل خضير و12 موظفا تحت امرته. ولم تكشف الجهات الرسمية عن سبب اعتقال خضير، لكن مصادر مطلعة قالت إن التحقيقات ربطته باختفاء مبالغ طائلة ضمن ما يعرف بـ”المبادرة الزراعية”، التي تعود إلى عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. واستغل المالكي تزامن صعود أسعار النفط وزيادة إنتاج العراق من البترول في عهده للحصول على موازنات انفجارية، لكن حكومته لم ترتبط بأي إنجازات مهمة رغم ذلك. وظهر اسم المالكي في قضية أخرى يتابعها الكاظمي، تتعلق بمشروع ماء عملاق في بغداد، صُرفت عليه ملايين الدولارات، دون أن يكتمل. وقالت مصادر قضائية إن أوامر بمنع السفر صدرت بحق ذكرى علوش أمينة بغداد السابقة، ومديرة العقود في وزارة التخطيط ازهار الربيعي، وذلك بسبب شبهة تواطئهما في إسقاط غرامة بنحو 100 مليون دولار على الشركة المنفذة لمشروع الماء، فضلا عن اعتقال مدير دائرة ماء بغداد. لكن الضربة الأكبر في هذه الحملة، تلك التي طالت شاكر الزاملي، وهو رئيس هيئة استثمار بغداد، الذي تشير المعلومات إلى ارتباطه الوثيق بالمصالح التجارية لأحد الأحزاب الاسلامية. وتقول المصادر إن الزاملي استغل منصبه لمنح شركات تابعة لهذا الحزب عقوداً بملايين الدولارات، دون أن ينفذ أيًّا منها، مشيرة إلى أن علاقات رئيس هيئة استثمار بغداد القوية، حصنته من الملاحقات القانونية طيلة الأعوام الماضية. ولأنها تضرب في جانب منها شبكة المصالح التي تخدم الأحزاب الفاسدة، والميليشيات المسلحة، دفعتها إلى التلويح بتهديد الكاظمي بشكل مباشر وغير مباشر. ويخشى الدكتور نعيم العبودي، النائب في البرلمان عن حركة عصائب أهل الحق بزعامة الشيخ قيس الخزعلي، “وجود دوافع انتقامية وراء هذه الحملة”، متسائلاً عن سبب “تشكيل لجنة جديدة لمحاربة الفساد، برغم وجود هيئة مختصة بالنزاهة”. ويقول النائب العبودي إن “هناك مخاوف بشأن إمكانية وجود دوافع سياسية وراء هذه الحملة”، مشيرا إلى أن “الكاظمي تجاوز السياقات الدستورية بتشكيل هذه اللجنة الخاصة لمحاربة الفساد”. وتابع “قد تتورط اللجنة نفسها في فساد من نوع ما”، مشيراً إلى " أن كتلة الفتح التي ينتمي إليها ستواجه في البرلمان، أي إجراءات انتقائية وانتقامية تفجر الوضع في البلاد”. ومضى يقول إن “محاربة الفساد تحتاج الى اتفاقات سياسية”، بمعنى أن على الكاظمي أن يتحدث مع الأحزاب قبل اعتقال الفاسدين، لأن “خطوات الكاظمي الحالية ليست قانونية، وقد تقع ردات فعل ضدها”.
*
اضافة التعليق