من فلوبير إلى درويش: كم من الأنوثة في الذكورة؟

بغداد- العراق اليوم:

في «حكايات كانتربري» لجيفري تشوسر، الكاتب الإنكليزي من القرن الرابع عشر، حكاية مذهلة بمقاييس زمنها (كتبت الحكايات بين 1387 إلى 1400 سنة وفاته)، وهي تحتفظ، رغم مرور كل هذه القرون، بحيوية وقدرة على دفع الناس للتفكر.

تقدم أليس، بطلة حكاية «الزوجة من باث» سؤالا مؤرقاً وظريفا: «ماذا تريد المرأة؟» وبعد مقدمة طويلة صريحة عن شهواتها وتبديلها للأزواج والعشاق، تحكي حكاية أحد نبلاء بلاط الملك آرثر، الذي اغتصب إحدى الخادمات وأعطته الملكة سنة واحدة للإجابة على السؤال الخطير مع تهديده بقطع رأسه إن عاد بالجواب الخطأ.

يقترب موعد الجواب (والعقوبة المميتة) ويكون من حسن حظ النبيل التقاؤه بامرأة عجوز تعده بإعطائه الجواب الصحيح مقابل أن يحقق لها ما تريده، فلا يكون لديه خيار عن القبول. يعود للملكة بالجواب الصحيح وهو: المرأة تريد أن تكون لها السيادة على زوجها، وأن يحتفظ أيضا لها بحبه، وهي «حكمة» نسائية كافية لولا اكتشافنا أن «الزوجة من باث» تريد أخذنا إلى نقطة أبعد: تخيّر العجوز الشاب النبيل بين الزواج منها أو بفتاة جميلة فيقبل الزواج منها، وحين يقبّلها تنقلب إلى فتاة شديدة الجمال، وأحد الاستنتاجات السريعة هنا هي أنه ليس على الرجل أن يخضع للمرأة فحسب ،ولكن أن يكفّ أيضاً عن رؤية الجمال الخارجي، فالمرأة العجوز قد تتكشف عن جمال خارق.

كانت رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير (1821 – 1880) إحدى النقلات المهمّة الحديثة في مغامرة تقمّص الكاتب لروح المرأة، ومحاولة التعبير عن هواجسها النفسية العميقة، رغم أن الرواية تجري بصوت ثالث، وليس بصوت إيما، بطلة الرواية نفسها، فإن عمل فلوبير، اعتبر إنجازا كبيرا في سياق التاريخ الأدبي الأوروبي، وعلينا كي نفهم السبب أن نرى أين أخذ فلوبير بطلته (أو بالأحرى أين أخذته).

كانت رواية «مدام بوفاري» إحدى النقلات المهمّة الحديثة في مغامرة تقمّص الكاتب لروح المرأة، ومحاولة التعبير عن هواجسها النفسية العميقة، رغم أن الرواية تجري بصوت ثالث.

أدى بحث بطلة الرواية إلى مغامرات عاطفية مشبوبة لكنّها تقابل، بعد فترة، بالفتور من الرجلين اللذين علّقت إيما أحلامها الرومانسية عليهما، ونتيجة ذلك، إضافة إلى تراكم الديون عليها، تقرر بوفاري الانتحار. في محاولته الجسورة لدخول دهاليز نفسية إيما ومعاناتها مع زوج مملّ وحياة أكثر إملالا، وعدم الاكتفاء بالحياة الاعتيادية للزواج والإنجاب سنكتشف أن فلوبير فتح باباً خطيرا.

كان أثر الرواية شديدا على المجتمع المحافظ الفرنسي إلى حد أن مجلة «ريفيو دي باريس» توقفت عن نشرها بعد الحلقة السادسة، وأن فلوبير سيق للمحاكمة بتهمة «انتهاك الأخلاق العامة والدين»، واعتبر العمل «تمجيدا للخيانة» و«نشرا للبذاءة والفحش»، وكان أن طالب محامي الادعاء المحلفين باعتبار فلوبير: «المجرم الأساسي الذي يجب أن تدخروا له قسوتكم. فالفن بغير قاعدة لا يعود فنًا، وهو كالمرأة التى تتخلى عن جميع ثيابها، وإخضاع الفن للوقار العام ليس استعبادا له بل تشريفا».

أصبحت «مدام بوفاري» حدثا تاريخيا وقد نشرت عنها (وعن المحاكمة) كتب كثيرة، وهناك قرابة عشرة أفلام سينمائية صورتها (هناك مسرحية برتغالية عن المحاكمة وحدها)، وقد تحدث فلوبير عن تأثير إيما عليه شخصيا، إلى درجة أنه أحس أنه يتذوق طعم سم الزرنيخ وينتحر معها، ولكن لا شيء يستطيع أن يعبر عن هذه المماثلة الروحية أكثر من قول فلوبير: «أنا مدام بوفاري».

فتحت «مدام بوفاري» (1856) الطريق الأدبي الأوروبي إلى «آنا كارنينا» (1873) لتولستوي (الشخصية التي لا تقل قلقا وعذابا عن إيما بوفاري)، وإلى «عشيق الليدي تشاترلي» (1928) لديفيد هربرت لورنس، التي قادت بدورها لمحاكمة الكاتب والناشر عام 1960، وقد انتهت هذه المحاكمة أيضاً إلى خسارة كبيرة لجهة الادعاء، وكانت تلك إشارة كبرى إلى تحرّر المجتمع الإنكليزي من حقبة المحافظة الاجتماعية التي طبعت الحقبة الفيكتورية وامتدّت إلى فترة أطول مما يجب (1832 حتى 1901)، وإضافة إلى عشرات الشخصيات من نقاد وعلماء ومثقفين وربات بيوت ورجال دين، الذين شهدوا لصالحها، فقد اعتبر رئيس الأساقفة في إنكلترا أنها ليست «مخلّة بالآداب»، وكانت تلك نقطة تحول في تاريخ الأدب الأوروبي وقوانين الحظر الأدبي عموما.

تمثل قصيدة «يطير الحمام» لمحمود درويش مناسبة مهمّة لقراءة قدرة الشاعر الفلسطيني على تمثّل صوت الأنثى كما فعل تشوسر في «الزوجة من باث» وفلوبير في «مدام بوفاري»، وقد أجريت عام 1991 دراسة اتبعت فيها معادلة إحصائية تستخدم في الدراسات اللغوية الأسلوبية طوّرها عالم النفس الألماني نويباور والباحثة انسبروك تحسب نسبة استخدام الأفعال إلى الصفات في النص المدروس. حسب الأبحاث اللغوية والنفسية المذكورة فإن نسبة الأفعال على الصفات ترتفع في الأعمال الأدبية عنها في الأعمال العلمية، وفي الأعمال الشعرية على النثر، وفي العاميّة على الفصحى وهي أعلى في الطفولة عنها في الكهولة، والأهم، في موضوع مقالتنا هذه، أنها ترتفع لدى النساء وتنخفض لدى الرجال. كان مثيرا حقّا استخدام هذه المعادلة لقياس النسبة بين صوتي الذكر والأنثى، اللذين يتمثلهما درويش، إضافة إلى صوت الراوي الذي يكرّر اللازمة «يطير الحمام يحطّ الحمام»، ويختم حكاية العاشقين التي تمثلها القصيدة، وكان التحدّي هنا: هل سيفترق الصوتان؟ أم سيثبت التحليل أنهما ليسا إلا صوت واحد وأن «التلبس أو الاستبطان لم يتخلل اللغة العميقة للأنوثة؟»، كما قلت في دراستي حينها. بجمع النسب في المقطعين المتناقضين جنسيّا كانت المفاجأة كبيرة حقّا فقد كانت النسبة في المقاطع الذكورية 20.64٪ فيما كانت في المقاطع الأنثوية 136.33٪ وهو ما يعني أن درويش تملّك اللغة الأنثوية واستبطنها استبطانا هائلاً.

تمثل قصيدة «يطير الحمام» لمحمود درويش مناسبة مهمّة لقراءة قدرة الشاعر الفلسطيني على تمثّل صوت الأنثى كما فعل تشوسر في «الزوجة من باث» وفلوبير في «مدام بوفاري».

تفتح هذه الأعمال الأدبية وردود الفعل التي أنتجتها الباب لتفحص مجموعة من الفرضيات/الاستنتاجات. أول هذه الفرضيات التي أريد اقتراحها هي أن بعض هذه الأعمال، تم تحليلها على ضوء اصطدام مفهوم الأدب بالضوابط الاجتماعية ـ السياسية للمرحلة التاريخية التي كان فيها، ولكن ألا يمكن أيضاً أن نعزو جزءاً من الصدّ والرفض لتلك الأعمال لاختراق الكاتب الحدود الجندرية عبر حديثه بصوت المرأة؟

ينبع ثاني هذه الفرضيات، من الدراسات الحديثة جداً حول الاختلافات التشريحية لدماغ المرأة والرجل، وما أكدته حول قدرات المرأة التكوينية على الاستشفاف والاستبطان والرؤية الأعمق للعلاقات النفسية والاجتماعية، اقترابها بالضرورة إلى تلك الحالة الأدبية ـ الشعرية المسؤولة عن إنتاج الأدب عموما، وإذا أضفنا لذلك ما ذكرناه عن الدراسات الألسنية التي تؤكد تلك الاختلافات الجندرية، فإن هذا يجعلنا نجازف أيضاً بافتراض أن الظاهرة الأدبية، في حيّز كبير منها، هي ظاهرة اقتراب الدماغ البشريّ (لرجل كان أم لامرأة) من الرؤية الأنثوية للعالم، وبالتالي فإن استغراق الكاتب في الحالة الأدبية يقتضي منه تشغيل مناطق الأنوثة في الدماغ البشري، كما أن قيام المرأة بالإبداع في قضايا الرياضيات أو الهندسة (والمسائل التي تحتاج تجريدا وتنظيرا كبيرين)، على سبيل المثال، يقتضي منها تشغيل مناطق الذكورة في دماغها.

ثالث هذه الفرضيات، هو جمع للفرضيتين الأوليتين (أو نقض لهما؟)، وهي تقترح أن الأدب الذي يجترئ على مجابهة القضايا السياسية /الاجتماعية القارّة، وما يرتبط بها من هندسات أخلاقية ودينية ونفسية، هو أدب يحاول توسيع الحدود البيولوجية عبر اختراق مسلّماتها وبدهياتها، وأن الكاتب باستخدامه أسلاك الإبداع داخل دماغه فإنه يضيء مناطق كانت معتمة لأسباب تتعلّق بالتطوّر.

علق هنا