بغداد- العراق اليوم:
كتب هاني المالكي: الى اولئك الذين يقولون : في عصر صدام كان العراق اكثر أمناً !! اقول : كان عمري ست سنوات ، وكنت في الصف الاول الابتدائي، في مدرسة النيل الابتدائية، مقابل جامع الرحمن ، كان ذلك عام ٢٠٠٢ ، اذكر ان اليوم كان يوم الخميس واذكر ان الدرس كان الدرس الثالث ، كان ابي هو مدرس العربية والدين في صفي ، وكنت انا ابن المعلم ! جاء المدير مرعوباً ومعه المعاون ، وطلب من المعلم ابي ان يترك الصف ويذهب معهما الى الادارة فهناك ضيوف في انتظاره !! لم يرتبك المعلم ابي ابداً ، ورد عليهما بهدوء : سأكون بعد دقيقة في الادارة .. بقي المدير والمعاون في باب الصف ينتظران ابي لاصطحابه ، تقدم ابي نحوي واحتضنني بقوة لم اعهدها من قبل ، وضمني الى صدره ، وقبلني في وجهي وصدري ورأسي ، وانا ذاهل امام اصدقائي ، لماذا يفعل ابي ذلك ؟! فقد اعتاد الطلاب على معاملته لي كأي طالب اخر في الصف .. مدّ ابي يده في جيبه ووضع في حقيبتي بعض الاوراق والنقود ، ثم نزع ساعة يده ووضعها في الحقيبة ! قلت : بابا .. مالذي يحدث ؟ قال : لا شيء يا عزيزي . قل لامك : ان ابي تم اعتقاله ، وربما لم يعد مرة اخرى اليكم ! لم اكن اعرف شيئا مما قال ، ولكني حفظت كل الذي قاله ، وهنا وهو يحتضنني ، اقتحم الصف عدة رجال وانهالوا على ابي المعلم بالضرب واللكمات وشهروا المسدسات وسط صراخنا نحن الاطفال ! وتمر اللحضات بقسوة ، ورأيت ابي وقد سال الدم من فمه وانفه ورأسه ، كان في كل حالاته ينظر لي وكأنه يودعني الوداع الاخير ! لووا ذراع ابي وطلبوا من المدير الرعديد حبلا لشد يدي ابي ، صرخ المدير بالفراش : سليم .. سليم .. احضر حبلا من المخزن بسرعة !! جاء سليم بالحبل ، وحين شاهد حال ابي الذي كان يعطف عليه ويكرمه صرخ بهم : اولاد ال...... هذا المعلم استاذ حسن .. انسان طيب وخير ! سحب المدير الفراش سليم الى خارج الصف ودفعه بقوة وقال مضطرباً : لا تورطنا معه ، اذهب !! شدوا يدي ابي الى ظهره وخرجوا به ، فالتفت التفاته اخيرة رمقني بها وابتسم !! خرجت الصفوف الى الساحة وخاف المعلمون واضطرب الجميع ، فأمر المدير معاونه بان يدق الجرس ويعلن انتهاء الدوام لذلك اليوم !! خرجت مع الطلاب وانا ابكي بكاءاً عالياً وسار خلفي مجموعة كبيرة من الطلاب بين متعاطف ومتألم ومستفسر ، وانا امامهم ابكي واحمل حقيبتي التي احتوت اوراق ابي وساعته ! وصلت بيتنا فوجدت مجموعة من رجال مجهولين مسلحين يجتمعون امام الدار ، فيما كانت امي تنتظرني في الباب ، بكيت بقوة بين يدي امي وراحت هي تنشج وهي تأخذني الى داخل الدار وفي الداخل فوجئت بثلاثة رجال في الاستقبال وهم يعبثون في مكتبة ابي ويأخذون ما يشاؤون ، ويكيلون انواع السباب لابي وامي ! ادخلتني امي الى المطبخ واغلقت الباب وقالت : اين ابوك ؟! فصمتّ لعدم قدرتي على الرد ، ثم اعطيتها الحقيبة لتفتحها ! اخرجت امي اوراق ابي وساعته واخذت تبكي بحرقة .. وبعد اسبوع ارسل مدير مدرستنا خبرا الى امي يطلب منها المجيء الى المدرسة ، ذهبت امي ... اعتذر عن اتمام هذا الفصل من حياتي .. فقد استلمنا جثة ابي وهي مقطعة قطعة قطعة !! يقول خالي ان رفعت يده انخلعت، وان حملت ساقه انفصلت !! نعم كان عصر صدام اكثر امناً ، كان اكثر امناً له ولجلاوزته ولمن لا يعنيه امر العراق ، اما نحن العراقيين فكان عصر صدام لنا جحيماً وخوفاً وجوعاً وقلقاً وقتلاً !!
*
اضافة التعليق