هكذا هم رجال الدولة... قاسم الأعرجي يوقع قرارًا لو وقعه قبل الانتخابات لكسب آلاف الأصوات

بغداد- العراق اليوم:

بون شاسع بين رجل يتبنى الدولة في منهجه، وأخر يتبنى السلطة، فالأول سيسعى بكل ما أوتي من قوة لتثبيت حكم المؤسسات بعيدًا عن الاستفادة والمنفعة الشخصية، أو الحزبية أو الفئوية، فيما الأخر لا يتورع عن تدمير المؤسسة لأجل مصالحه الشخصية والفئوية والحزبية. فرقُ بين من يعمل لأجل أن يسود القانون فوق الجميع، وأن تختزل حركة الدولة في إطار خدمة الشعب، وأخر يحرك الدولة والشعب من إجل مصالحه.

تصاب الدول بمقتل حين يحول من يمسكون زمام الأمور، السلطة الى غاية بحد ذاتها، وتتحول هذه الغاية الى غول يلتهم بلا رحمة، في سبيل أن تحقق مصالحه، بصرف النظر عما اذا كانت هذه السلطة عادلة أم باطلة، المهم هو ضمان البقاء فيها.

في الدول الديكتاتورية تتجلى عبادة السلطة بوضوح، ويسخر الدكتاتور كل شيء من إجل استدامة وجوده الذي يكون مساويًا لمقدار السلطة، فيما تنزع الدولة نحو الهاوية. وقد رأينا ذلك سنوات طوال حين حكم الفرد الدولة، وتحول الى مجرد سلطان ظالم لا يرعوي عن أي انتهاك، ولا يكف عن أي ارتكابات تحدث.

في الدول الديمقراطية أو تلك التي تسير نحو الديمقراطية- كما هو حالنا- ذات المآل قد تواجهه الدولة، اثر نزوع بعض الشخصيات نحو تحويل السلطة الى هدف، فيما الحقيقة أن الانظمة الديمقراطية لا تعترف بغير سلطة الشعب، ومن ثم تترجم هذه السلطة عبر مؤسسات متعددة، الى سلطة الشعب، وليس سلطةً على  الشعب!.

للأسف هذا الفهم المغلوط لشكل العلاقة بين من يتمثل السلطة الشعبية، وبين من يمثلها ظل يراوح بين عقليتين، أحداهما وهي للأسف الغالبة تميل الى"سلطنة" المسؤول، ولذا تجيز له تسخير كل شيء في سبيل بقائه في موقع القرار، وتصور له أن ابقائه في هذا المكان يكمن في مدى اضعاف سلطة الدولة، وارضاخ سلطة الشعب لتتحول الى سلطة على الشعب. وهذه طامة كبرى بطبيعة الحال.

في الاتجاه الأخر، ثمة رجال مؤمنون بالدولة فوق السلطة، ومؤمنون أن الديمقراطية التي وصلوا عبرها أنما هي تكليف شعبي أوصلهم لمواقع القرار، لذا يوظفون هذا الوجود في سبيل تعزيز سلطة الدولة، والغاء الفردية في مواقع المؤسسة، مع أهمية الشخصية القيادية، لكن هذا الاتجاه يرمي الى تخليص العقلية الحاكمة والمحكومة من فكرة الرجل الخارق، الرجل الذي لا يرد له طلب، الرجل الذي يحكم الدولة والشعب معًا.

هذا الاتجاه العقلاني في السياسة العراقية، نادراً ما ترجم على أرض الواقع، وللأسف هذه النماذج لا تحظى بتشجيع شعبي كاف، أو على الأقل يبتعد عنها الاعلام الذي يروج للفردية في السلطة، لأنه اعلام شمولي للأسف.

من هولاء المسوؤلين العقلانيين في المشهد العراقي، قاسم الأعرجي، وزير الداخلية العراقية الذي يعمل بجد واجتهاد وطموح مرتفع في سبيل تحويل واحدة من أكثر تجليات مؤسسات السلطة في السابق، الى مؤسسة الدولة، مؤسسة الشعب، مؤسسة الخدمة العامة، لا مؤسسة أمنية تخضع الشعب لسلطة حاكم مهما كان.

الأعرجي القادم من خلفية جهادية، وعمق شعبي أصيل، انتهج هذه السياسة في الداخلية العراقية، رافضًا اغراءات السلطة الواسعة التي بين يديه، محولاً اياها الى سلطة مؤسسات متنوعة، ومتجهًا بها الى تغيير نمط العمل فيها، نحو أن تكون مؤسسة تشاركية في الأهداف والرؤى والتطبيقات مع المنتسبين اولاً، ومن ثم مأسسة تلك العلاقة مع الشعب.

في هذا المسعى نجد أن الرجل يتخذ قرارات صعبة في كل مفاصل العمل، بعضها لو فكر بأنوية وذاتية، تكلفه الكثير من الرصيد الشعبي الذي يملكه، لكنه يعرف أن دوره كالطبيب الجراح، سيضطر الى استخدام المبضع، وقد يؤلم مريضه، لكنه يعلم أن هدفه النهائي انقاذه كله، أو تقليص آلمه الى حد أدنى أن عجز عن استئصال المرض.

الأعرجي الذي حصد الاف الاصوات في الانتخابات الماضية في واسط مسقط رأسه، كان بإمكانه وببساطة أن يحول عمله الروتيني والاستثنائي الى عمل دعائي يضمن له مئات الاف من الأصوات، لكنه أبى أن يتجه الى هذا المنحى الذي حاربه منذ نعمومة اظافره، وحاربه نائبًا ويحاربه وزيراً.

ففي خبر طالعنا به (العراق اليوم)، نكتشف من مصادرنا الخاصة في مكتب الوزير ان الأعرجي أخر اصدار امر اداري كان لو وقعه قبيل يوم الانتخابات لضاعف رصيده الانتخابي عدة مرات، لكنه أبى أن يتحول الموقع الى بازار انتخابي، فامتنع  عن توقيع أمر اداري لصرف مبالغ مالية تقدر باكثر من ملياري ونصف دينار لجرحى الوزارة الابطال ممن هم بحاجة الى اطراف صناعية بعد ان فقدوها في معارك الشرف والغيرة الوطنية.

الأعرجي اخر اصدار هذا الأمر الى ما بعد الانتخابات التشريعية حتى يضمن عدم تحويل هذا الامر الى دعاية انتخابية، كما فعل بعض المسؤولين حينما استثمروا ابسط الامور الادارية في باب الدعاية الانتخابية, وكان بامكان الرجل الاتكاء على هذا الامر وضمان مئات الاف الاصوات اذا ما علمنا أن عدد هولاء الجرحى يقدر بـ 30 الف شخص مع عوائلهم ومعارفهم سيصل الى رقم مهول من الناخبين، الا أن الرجل بقي محافظاً على وعده وعهده الذي قطعه، وآمن بالدولة نهجًا ومنهجًا، مهما كلفه ذلك.

أن ما يفعله هذا الوزير هو بادرة حسنة وعمل يشجعنا على الطلب من الجميع بتحييد مؤسسات الدولة وابعادها عن التسخير لاهداف شخصية وفئوية، لضمان انتاج دولة طال انتظارها، وأصبح الحديث عنها مجرد اماني لدى البعض.

علق هنا