بغداد- العراق اليوم:
في 21 دولة حول العالم شارك العراقيون العرس الانتخابي الكبير الذي يمارسه شعبنا للمرة الرابعة على التوالي بعد ازاحة الديكتاتورية التي تسببت سياساتها الهمجية، وحروبها الرعناء المدمرة بانتشارهم في المهاجر والمنافي، حتى غدا للعراق الوطن، شعبان، شعبُ في الداخل اذيق ويل الطغيان واكتوى بنيران الحروب وويلات القمع والتغييب، وشعبُ أخر لا يقل معاناةً عما في الداخل، حيث اكلت المنافي من اعمار العراقيين، من شعراءً وكتاب وصحافييين ومثقفين مبدعين، الى مواطنين وطنيين، اخرجتهم الطواغيت والحروب والارهاب الى بلدان ما كان يخطر على بالهم الرحيل والإقامة فيها، لقد رفض بعضهم الاستسلام للدولة البوليسية التي كانت تديرها عشيرة متخلفة، واختاروا المنفى ومن هناك واصلوا السعي لاسقاط الدكتاتور، وبناء وطن يتعايش جميع ابنائه بحرية ووئام وأخاء، وبعضهم رفض الطائفية واقتتال الأخوة، مستنكراً العيش تحت ذل سلطة الإحتلال الداعشي، فخرجوا وكل يحمل سببه، فأستقر بعضهم في المنافي البعيدة، وبعضهم في الدول المجاورة، حاملين حب العراق في قلوبهم وفي عيونهم المتشوقة لرؤية الوطن البعيد. ولعل ما حدث في 2003 كان نصف الحكاية الأهم اذ تخلصت البلاد من صدام، لكن بقاياه واجزائه بقيت تتحرك هنا وهناك، بعد أن لم تجد ما يمنعها من استعادة نشاطها التدميري للأسف الشديد، وحيث وجدت بعض الدول المعادية المجاورة في بعض العناصر الهزيلة، وسيلةً لتدمير البلاد مجددًا مدفوعةً بالحقد الطائفي، والعداء العميق للعراق دولةً وشعبًا. ومن هنا كان نصف الحكاية الآخر متعثرًا، وفيه الكثير من الارتباك، فضلاً عن تحول بعض محافظات ومدن العراق، الى حواضن للأرهاب، بسبب قراءة غير واقعية لمجرى التغيير، وانتهازية بعض الأطراف التي شاركت في العملية السياسية ما بعد سقوط نظام صدام. كل هذه الاسباب وغيرها، فضلاً عن فشل حقيقي لدى الاحزاب التي امسكت بمقاليد السلطة، من فهم الديناميكيات الداخلية للشعب العراقي، ومؤثراته التي يجب أن تستقرأ قبل الشروع بتشكيل عملية سياسية بقيت متلكئة في الوصول الى المبتغى، في بناء سلطة وطنية جامعة قادرة على فرض القانون، وتطبيق مبادئ الدستور، واخضاع الجميع لقوى الدولة، وأقصاء العناصر التخريبية من المشهد، وقطع دابر التدخلات الخارجية والأقليمية، فضلاً عن اشاعة مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، والأهم من ذلك المساواة والعدالة الاجتماعية المغيبة منذ قرون طوال في البلاد. كل هذه التعثرات فضلاً عن التداخل غير المبرر بين ما هو سياسي، وما هو ديني في دولة يفترض أنها مدنية، وشيوع منطق اليأس من الاصلاح، كانت يمكن أن تكون اسبابًا كافية ليقطع عراقيو الخارج صلتهم بوطنهم الأم، ويحجموا عن الاشتراك في أي قرار يخصه، لاسيما بعد ان أستقروا بشكل نهائي في بلدانهم الجديدة، وبدؤوا حياةً ناجحة هناك، وتكون جيل أو اكثر منهم في ظل تلك الدول، لكن هذا لم يحدث والسبب ببساطة، أن ثمة جذراً غائراً في نفس كل عراقي سواء ولد على هذه التربة، أو في أي مكان أخر، هذا الجذر العميق يذكره بأنه من وطن عريق، وأن بلده كان مهدًا لحضارة علمت الانسانية الحرف واخترعت العجلة، وبدأت منها مراحل تطور الانسان في رحلة التكامل المنشودة. فضلاً عن ذلك، فأن عراقيي الخارج يعدون الأكثر حضوراً وتأثيراً في معادلات البلاد السياسية والثقافية ما بعد 2003 وما قبلها، كيف لا وهم نخبة الوطن، وقادة الرأي والفن والفكر والابداع فيه، لذا فأن جذوة "العراقية"، صفةً ومواطنة وممارسة لا تزال متقدة في تلك الضمائر، التي افرحتنا التقارير المنشورة عن اخبار التصويت الذي بدأ منذ اكثر من 24 ساعة في تلك الدول المتباعدة، حيث اعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ان العراقيين توافدوا على صناديق الاقتراع من اصقاع شتى، حتى أن بعض العوائل العراقية اضطرت لقطع 500 كيلو متراً لغرض الحضور والمشاركة في هذا الاستحقاق الوطني، وهو في واقع الأمر يبعث على الأعجاب والفخر بهذه الروح الوطنية التي يحملها العراقي، وهو الذي لا يبارح وطنيته ولا عراقيته، ويعتز بها في أي محفل حل، أو أي موقع كان. عراقيو الخارج هم ذخيرة اضافية للوطن، وسفراء لهذا الوطن، ولوبي ضاغط من أجل مصالح البلاد، ولذا على الحكومة العراقية رعايتهم والبحث عن مصالحهم وتعزيز الصلة بينهم وبين وطنهم الأم، مهما طال زمن التباعد، وطالت المسافات بين الاثنين.
*
اضافة التعليق