بغداد- العراق اليوم:
حين اجتمع العالم شرقاً وغرياً، ومن جهاته الأربع - باستثناء اسرائيل وكتالونيا - على ان اجراء الإستفتاء خطأ فادح، بكل القياسات والمقاسات الدستورية وغير الدستورية، وللحق فإن الكثير من النخب الثقافية، والفاعليات السياسية والإجتماعية الكردية، بل وحتى ابناء الطبقات الشعبية في كردستان اعلنوا موقفهم وضوحاً أو تلميحاً الى (سوء تقدير) البرزاني، والى خطأ اجراء الإستفتاء في هذا الوقت العصيب الذي يمر به العراق - بما فيه اقليم كردستان - ، الاً فخري كريم، فقد كان الرجل في موقفه المؤيد والمساند للإستفتاء أشد من ابناء مسعود البرزاني، بل ومن البرزاني نفسه، مطبقاً على نفسه المقولة الشهيرة ( ملكي أكثر من الملك ) !
لكن فخري الذي كان متشدداً جداً، ومؤيداً لإجراء الإستفتاء في وقته المعين، والمهاجم دائماً في كتاباته، وتصريحاته، ومواقفه ضد كل من تسول له نفسه بالإشارة أو التلميح الى خطأ اجراء الإستفتاء، أو الى ما يشابهه، نجده اليوم يتراجع، ويعترف بان الإستفتاء (خطأ)، وإن ثمة (سوء تقدير ) قد حصل في اجرائه !
فيا سبحان مغير الاحوال، والأقوال، وسبحان من كسر غطرسة هذا وذاك، فجعلهم يكتبون ( مقالات ) يقرون فيها بخطأهم وسوء تقديرهم!
ومقال فخري كريم زنكنة المنشور في جريدته (جريدة المدى)، الذي حاول فيه خلط اوراقه باوراق الحزب الشيوعي، وهو خلط مقصود يراد منه التشويش على القارئ، ومحاولة دمج موقفه مع موقف الحزب الشيوعي، وهذا ظلم كبير، فمواقف الحزب الشيوعي الوطنية والاخلاقية معروفة وثابتة، لاسيما مواقفه من قضايا الشعوب، وحق تقرير المصير، وهي قطعاً مواقف لم تخضع يوماً لحسابات مصلحية، او تكتيكية، انما هي مواقف مبدئية راسخة، في حين ان مواقف فخري كريم تتغير حسب حاجة السوق، وحجم الطلب والعرض.. لذلك اقتضى التنويه الى هذه النقطة .
اليكم المقال:
فخري كريم
العراقيّة .. التاريخ يُفصح ويَفضح...
سألني دبلوماسي أجنبي، من دون قصد استفزازي: هل صحيح أنك قيادي سرّي في الحزب الشيوعي العراقي؟، أجبته مبتسماً: هذا شرفٌ لا أدّعيه، لكنني لا أتنصل من تاريخي، ولن أتردد في تأكيد انتمائي، وكلّ مواقفي تنطلق من موقعي الفكري والسياسي، ومن القيم الوطنية والإنسانية التي تشبّعت بها في نشاطي في الحزب والحركة الوطنية على امتداد ستة عقود من عمري وربما أكثـر ..!
لكنّ الحزب، كما قال الدبلوماسي، ضعيف لم يستطع الحصول على مقعد له في البرلمان أو الوزارة .
قلتُ: لستُ في وارد خوض تفاصيل عما تقول، ويمكنك مناقشة الأمر مع قيادة الحزب، وإلّا لاشتبهت بصدقيتي فيما ذكرت آنفاً. وما يمكن قوله بهذا الصدد إن الحزب باستثناء مرحلة ملتبسة، كان قوة تأثير مقرّرة في الحركة الوطنية وفي أوساط الحركة الجماهيرية، ونفوذه كان مقرراً، وإن كان الحزب مقموعاً، متوارياً في ما كان يسمّى مجازاً بالأقبية
السرية .
ظل محور النقاش، الحزب الشيوعي .
سألني ثانية: وهل مازال الحزب موضع ثقة الناس، وهل له صدقية وتواصل مع تاريخه؟
أجبته: إنني لا أريد التهرب من النقاش، لكنني بكل صدق أقول لك، أنا سعيد لعدم "استيلاء الحزب" على السلطة وإن توفرت له الحظوظ لتحقيق ذلك، لأنه ظل بمنأىً عن ارتكاباتها وتشوهاتها وعن التحول الى ما آلت إليه جميع أحزاب السلطة في مختلف المراحل التاريخية. إنّ ما يجعلني فخوراً بتاريخي في هذا العمر، أن الشيوعي هذه الايام مضرب المثل في الوطنية ونظافة اليد، لم يسقط أحد ممن تولوا المسؤولية في أي مستوىً حكومي في بؤرة الفساد والرشى والجريمة المنظمة، وهذا ما يستشهد به المعممون من على المنابر ..!
ظل الحوار ممتداً في هذا الإطار .
وقد تذكرت أن جانباً منه تعلق بـ "إلحاد الشيوعيين"، وآخر حول الجمع بين وطنيتهم وأمميتهم، ولم يخلُ الحوار من تساؤلات حول الطائفية والقومية وسواهما مما يتعلق بالحاضر الملتبس.
سألته: هل أنت ملحد ؟ أجاب بأنه
" لا أدريٌّ".
من دون أن أتوقف عند لاأدريته، ذكّرته بأن ملايين الناس في " العالم الاول" ، أوروبا وأميركا، هم لا دينيون أو لاأدريون، أو ملاحدة، وهم في الغالب، وهذا لافت ومثير، معادون للشيوعية والاشتراكية كنظام ..!
الإلحاد، كما أكدتُ في أكثر من مرة، وأذكر من بينها أول حوار تلفزيوني في قناة خليجية رداً على مثل هذا السؤال، هو " مثل الإيمان الواعي غير المتوارث، يتطلب معرفة موسوعية في علوم الحياة والأكوان، الفلسفة والدين المقارن، وما وراء الطبيعة، وأنا لا أدعي تمكني منها، وليس من العقل أن تبشر بما لا تدري . والشيوعيون في العراق والعالم الثالث، لا يتجاسرون على الاديان، والقاعدة العريضة للاحزاب الشيوعية تعاني من ضروب الأمية وشبه الثقافة. ما تتناوله بعض أحاديث قادة الإسلام السياسي، شبه الأميين في المعارف غير الدينية بل الدينية أيضاً، حول منظمات شبابية تبشر بالإلحاد، هو قريب من الواقع، لكن هذه "الإلحاد" اتسم بالسذاجة والتبسيط، وهو شديد النفور من كل التزام بالحزبية أو الانتماء. والأهم من ذلك إنه من بين ردود الافعال الصارخة ضد كل المظاهر المرتبطة بالمنظومة السياسية القائمة وبنهج وسياسات وسلوك الطبقة الحاكمة المتنفذة . إنها رد فعل عنيف ضد القيم والممارسات الزائفة التي يلحقها هؤلاء، ومعممون "مستقلون"، بالدين والمذاهب وتاريخ الإسلام، أو هكذا يردُّ ذوو الشان في المرجعيات الدينية على ما تتقاذفه مواقع التواصل الاجتماعي من صور وأقوال وخطب تتميز أغلبيتها بطابع جنسي، هي أكثر تدنّياً من أفلام البورنو.
٢
قادني هذا الحوار الى حديث عن " الوطنية" و"القومية " والعراق الموحد، حيث تُشَنّ تحت لافتة مهترئة حملات تخوين وتشويه في مواقع وشبكات مأجورة معروفة التبعية، وأسماء بلا دلالات تختفي وراء ألقاب مستعارة وآخرون هم من حثالة النظام السابق المتحولين وبعض بقايا " المنبر الشيوعي" الموالي للبعث والمنخرط في أجهزته، وبينهم قيادات وضعت نفسها تحت تصرف البعث إبان الحرب العراقية - الإيرانية باسم الدفاع عن الوطن، وهم الآن يرتدون عباءة الاحزاب المتأسلمة ويناصرون "القائد الضرورة"، ويعيشون في بلدان اللجوء. ولا يخلو هذا الخليط من " ذوي النوايا الحسنة" .
وهذه المرة كتب لي صديقٍ أثير، يحاول أن يستفهم حول مواقف ولماذا تثير التباسات بين هذا " اللملوم" المستثار .
أكتبُ له، وقد يكون في ما أكتب بعض النفع لمن لم تعمِهم الجهالة وسوء النية والماضي الأسود .
كتب الأستاذ حازم صاغية قبل سنوات ما معناه أن الحزب الشيوعي إذا كان موحداً وقوياً، كان " العراق موحداً ومعافى"!
كانت الوطنية العراقية على مر تاريخ العراق، وقبل أن يتشوه العراق بالمحاصصة الطائفية وإنكار مرجعياته الوطنية والدينية لصالح الغير، تكرس قيم الوحدة الوطنية ، وتُقر بالحقوق القومية وحق تقرير المصير ارتباطاً بالظروف الموضوعية والذاتية، ودائماً ارتبطت هذه الحقوق بالديمقراطية للعراق .
وفي أشد مراحل الصراع بين الكرد والانظمة المتلاحقة، وهي كانت متلازمة مع نضال العراقيين ضد مستبديهم، كان الحزب الشيوعي يثقف بمتلازمتين سياسيتين: في بغداد والمناطق العربية كان التثقيف يركز على إدانة شوفينيّة القومية الكبرى، وفي المناطق الكردية يدين التعصب وضيق الأفق القومي .
وفي كل مراحل الحروب التي شنتها الانظمة المتعاقبة على الحكم، وأبرز تلك المحطات في عام ١٩٦٢ حين تصاعدت العمليات العسكرية في كردستان، والتظاهرات الجماهيرية التي انطلقت ببغداد والمدن العراقية، كان شعار الشيوعيين والتقدميين: "السلم في كردستان ،.. يا شعب طفّي النيران" ..!
وهو شعار يصلح اليوم ليتحور إلى دعوة مخلصة لحوار وطني شامل لا تنفرد به جهة بعينها، ولا يقتصر هدفه على حل الخلافات مع الإقليم، وإنما يستهدف إصلاح العملية السياسية التي كانت من بين العوامل الحاسمة التي جرّت البلاد الى ماهو فيه . على أن يجري الحوار تحت سقف الدستور من دون الإخلال به، وفي إطار الحفاظ على العراق الديمقراطي الاتحادي المدني وبعيداً عن الإرادات الخارجية وأجنداتها وما تغذيه من أحقاد وكراهية وتحريض على الانتقام.
يومها اعتُقِل عدد من أبرز المثقفين والصحفيين والكتّاب وحكم عليهم بالسجن خمس سنوات. كان بينهم الراحلون حميد رشيد وصالح سلمان وكاسب السعد. في المحكمة طلب رئيس المحكمة من "المتهمين" شتم الملا مصطفى البارزاني للإفراج عنهم، لكنّ الجميع رفضوا وهم عرب، باستثناء شخص كردي قومي استجاب للطلب، فأفرجت المحكمة عنه، وزُجّ بالآخرين في سجن نكرة السلمان الصحراوي ..!
والموقف الوطني الصادق الذي يريد للعراق أن يظل محصنا ضد التفكك والتشرذم، إنما يتمثل في مواجهة النهج الطائفي وتصفية رموز الفساد والمسؤولين والطامعين في الحكم بالانقلاب على إرادته. وهو موقفٌ لا يقبل تحت أيّ مسوغات أن يرهن إرادة البلاد للاجنبي ومطامعه وستراتيجياته. والوطنية المخلصة تبذل كل جهدٍ ممكن لرأب الصدع بين جميع القوى والمكونات، وإشاعة قيم التسامح والسلم الأهلي والوحدة الوطنية.
وقد ينفع أن أستذكر مواقف تاريخية تؤكد أهميتها اليوم، وهي مواقف ترتبط بالحرب العراقية الإيرانية، فالحزب الشيوعي دانَ الحرب منذ لحظة انطلاقها وطالب بإيقافها فوراً.
وفي مرحلة من مراحلها، تعالت أصوات داخل الحزب ومن قوى المعارضة تطالب بالقتال من مواقع الجيش الإيراني ضد الجيش العراقي، لكنّ الخيار الوطني تجسد في الشعار الذي حسمته قيادة الحزب: "نناضل لإسقاط الدكتاتورية وندين حرب النظام، .. لكننا لن ننقل البندقية من كتف الى كتف، ولن نتسلل من تحت أرجل القوات الإيرانية لمحاربة الجيش العراقي". وتجسد هذا الخيار مرة اخرى في حرب 2003 حيث رفع الحزب شعار لا للحرب .. لا للدكاتورية.
لمن يريد امتحان وطنيتنا أن يدقق في سجل التاريخ، ليتأكد أن الوطنية لدى البعض لها مفهوم متغير وولاءاتٍ لا يجمعها مع الوطنية جامع.
لقد كان استفتاء كردستان خطأً، وهو مما يمكن أن يدخل في باب سوء التقدير. لكن هل الحفاظ على الوطن له علاقة باستهداف الشعب الكردي والانتقام منه؟ وإذا كانت ملاحقة الفساد في كردستان مشروعة، فهل الفساد في بغداد "تقيّة"؟!
*
اضافة التعليق