الغاز مقتل تروتسكي تظهر أخيراً

بغداد- العراق اليوم:

ظهرت أخيراً أداة الاغتيال التي استُخدمت في قتل أحد أشهر الثوريين في التاريخ إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، فهو المحرِّض الدائم على الثورة منذ الحرب العالمية الأولى حتى الربيع العربي.

في مساء يوم 20 أغسطس/آب 1940، زار رجل يُعرف باسم فرانك جاكسون منزلاً كبيراً في ضواحي مكسيكو سيتي، وطلب مقابلة "الرجل العجوز"، كما كان يدعى المقيم الشهير، ليون تروتسكي.

وبعد بضع دقائق، غُرست فأسٌ في جمجمة تروتسكي، فأصبحت بذلك سلاح القتل الأكثر شهرة في العالم. وعُرضت الفأس بشكل سريع في مؤتمر صحفي للشرطة، لكنها اختفت بعد ذلك أكثر من 6 عقود، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.

وليون تروتسكي هو سياسي روسي مؤسس المذهب التروتسكي الشيوعي وأحد القادة الذين لعبوا دوراً بارزاً في الثورة البلشفية عام 1917، وتأسيس الاتحاد السوفييتي ثم اختلف مع الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين؛ إذ كان تروتسكي يؤيد فكرة الثورة الدائمة التي تنتقل من بلد لآخر عبر تصدير الثورة، بينما يتبنى ستالين فكرة التركيز على بناء الشيوعية في بلد واحد هو الاتحاد السوفييتي.

في عام 1926م تم إعفاء تروتسكي من عضوية المكتب السياسي في الحزب البلشفي بتهمة النشاط المعادي للحزب، كما تم نفيه.

وفي عام 1938م، أعلن تروتسكي قيام الأممية الرابعة (المنظمة تضم الأحزاب التروتسكية في العالم كله) التي لا تزال قائمة حتى الآن ويحظى نشطاؤها بنوع من الشعبية في بعض الدوائر الشبابية ببعض دول العالم، وخاصة في أميركا اللاتينية.

وتجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبه التروتسكيون في الاضطرابات الطلابية عام 1968م بباريس.

قصة عودتها الغريبة

ولكن بعد أكثر من 67 عاماً من اختفائها، ستُعرض الفأس الملطخة بالدماء في العام المقبل (2018)، بمتحف واشنطن الدولي للتجسس، والذي سيُعاد افتتاحه في مبنى جديد لاستيعاب آلاف القطع الأخرى التي خرجت إلى النور.

قصة اختفاء الفأس هي قصة غريبة، تليق بقصة اغتيال تروتسكي المروعة. ولكن بعيداً عن نظريات المؤامرة والتنظيرات السياسية، يبدو أن سبباً أبسط مما نتوقع خلف اختفائها.

فبعد المؤتمر الصحفي الذي عُقد في عام 1940 بشأن الجريمة، تم تخزينها بغرفة أدلة في مدينة مكسيكو عدة سنوات إلى أن أخرجها ضابط الشرطة السرية ألفريدو سالاس، الذي قال إنه يريد الحفاظ عليها للأجيال القادمة. وتركها لابنته آنا اليشيا، التي احتفظت بها تحت سريرها 40 عاماً حتى قررت طرحها للبيع في عام 2005.

وعرض حفيد تروتسكي، إستيبان فولكوف، القيام باختبار الحمض النووي؛ للتأكد من أن دماء جده هي التي على الفأس، ولكن بشرط أن تتبرع سالاس بالسلاح إلى المتحف المقام بمنزل تروتسكي، والذي تم الحفاظ عليه منذ مقتله. ولكن سالاس رفضت الصفقة.

وقالت ابنة مفتش الشرطة لـ"الغارديان" في ذلك الوقت: "أنا أبحث عن العائد المالي. أعتقد أن شيئاً مهماً تاريخياً كهذا سيُباع بثمن معقول، أليس كذلك؟".

وقام بشراء السلاح، في نهاية المطاف، جامع التحف الأميركي كيث ميلتون، وهو مؤلف كتب كثيرة عن تاريخ التجسس، وعضو مؤسس في مجلس متحف التجسس الدولي. بالنسبة لجامع التحف المتعطش، الذي يعيش في بوكا راتون بولاية فلوريدا، كانت الفأس نوعاً من الهوس.

يقول ميلتون: "استغرق البحث 40 عاماً، وعانيت كثيراً التضليل". لقد تتبَّع كل الشائعات من كثب، حتى ظهرت سالاس.

كم ثمنها؟

لا يريد ميلتون أن يكشف عن المبلغ الذي دفعه لسالاس مقابل الفأس. وقد نفت سالاس التي تم الاتصال بها يوم الأربعاء، أي علم بالبيع. وقال حفيد تروتسكي، فولكوف، إنه غير مهتم بمصير الفأس.

وقال لـ"الغارديان": "بصراحة، نحن لسنا مهتمين بذلك. لم أجرِ اختبار الحمض النووي. أنا لن أقبل أن نكون جزءاً من صفقة تجارية لتلك المرأة".

وأضاف فولكوف: "ليست لها أهمية. كان يمكن أن يكون سكيناً أو مسدساً. لا يهم إن كانت فأساً. وقد تم ذلك بشكل أخرق. من يدري إن كانت هي الفأس الحقيقية؟".

وقال ميلتون إنه قد تأكد من أن القطعة الأثرية أصلية، بما لا يدع مجالاً للشك، وبعدة طرق؛ إذ إن هناك مستندات تؤكد أنها كانت في حيازة سالاس. وهي تحمل طابع المصنع النمساوي "ويركغن فولبمس"، وهي تفاصيل لم يتم الإعلان عنها في حينها؛ بالإضافة إلى أن أبعادها هي نفس تلك المسجلة في تقرير الشرطة، ولا تزال تحمل علامة الصدأ التي خلفها الدم، مماثلة لتلك التي في الصورة من المؤتمر الصحفي لعام 1940.

لماذا تم استخدام فأس في اغتياله؟

ويعتقد ميلتون أيضاً أنه حلَّ أحد الأسرار القديمة عن قتل تروتسكي. وهو: لماذا استخدم القاتل الفأس رغم أنه كان مسلحاً بمسدس أوتوماتيكي وخنجر 13 بوصة؟!

لمعرفة السبب يجب العودة للتاريخ، فقد كان هناك اثنان من أبناء الثورة الروسية عام 1917، تروتسكي وجوزيف ستالين، في حالة منافسة لا يمكن أن تنتهي إلا بالموت.

وافق ستالين على خطة نهائية لاغتيال تروتسكي عام 1939. كانت تتألف من مؤامرتين متوازيتين: الأولى كانت هجوماً أمامياً، بقيادة ديفيد ألفارو سيكيروس، الرسام المكسيكي الذي كان أيضاً عميلاً لشرطة ستالين السرية ووزارة الداخلية الروسية (NKVD).

وفي 24 مايو/أيار 1940، قام سيكيروس وفريق من المسلحين يرتدون ملابس الشرطة باقتحام منزل تروتسكي مطلِقين أكثر من 200 رصاصة، لكنه نجا، ونجت زوجته ناتاليا. بدت نجاته معجزة، ولكن اتضح أنها كانت مجرد فترة إرجاء قصيرة. فقد كانت مؤامرة الاغتيال الاحتياطية قد بدأت بالفعل

المؤامرة الاحتياطية

قبل ذلك بعامين، في مؤتمر تروتسكي الدولي الرابع بباريس، التقت شابة وحيدة من نيويورك، سيلفيا أجيلوف، وهي من أنصار تروتسكي، رجلاً يبلغ من العمر 25 عاماً يدعى جاك مورنارد، ادَّعى أنه ابن دبلوماسي بلجيكي.

كان اسمه الحقيقي رامون مركادر، وهو شيوعي إسباني كانت أمه، وهي ستالينية مخلصة، قد نذرته لمهمة قتل تروتسكي.

وقد اقتنعت أجيلوف بالانتقال إلى مكسيكو سيتي للعمل لدى أسرة تروتسكي. وأبلغها ميركادر أنه سيضطر إلى تبني هوية مزورة، إذا أراد أن يصاحبها؛ لتجنُّب الاستدعاء إلى الخدمة العسكرية. وقال إنه سيسافر منتحلاً اسم فرانك جاكسون. قبلت أجيلوف التفسير، واعتاد مرافقو تروتسكي رؤيته يصطحبها إلى المجمع كل صباح.

في 20 أغسطس/آب 1940، كان ميركادر يقوم بزيارته العاشرة إلى المنزل. قال للحراس إنه يعتزم نشر مقال في مجلة ويريد من تروتسكي أن يلقي نظرة على المسودة.

وحسب ميلتون، "فإنه في ظل تشديد الحراسة على تروتسكي، كانت فرصته الوحيدة هى قتله بصمت ثم الخروج كضيف قبل أن تُكتشف الجثة".

ومن الواضح أن مسدساً لا ينفع في هذه الحالة، ولا يمكن ضمان أن الخنجر كان سيقتل تروتسكي مباشرة.

ومن التجارب السابقة، أوصت الداخلية الروسية باستخدام قوة حادة على الجزء الخلفي من الرأس؛ لضمان وفاة صامتة تماماً. للقيام بهذه المهمة، وبالفعل سرق ميركادر فأس الجليد من ابن مالك المنزل الذي كان يقيم فيه.

الفأس الآن هي بين 5000 قطعة وهبها ميلتون من مجموعته لمتحف التجسس الدولي، تضم أيضاً غواصة بريطانية لرجل واحد كانت تُستخدم في غارات الحرب العالمية الثانية، وأحد الأجهزة المستخدمة من قِبل النازيين لتزوير الجنيه الإسترليني.

وفقاً لميلتون، تتفوق الفأس على كل كنوزه الأخرى من حيث الرهبة. بعد أن أدخل تروتسكي ميركادر إلى مكتبه، جلس يقرأ مقالته، فهاجمه القاتل.

هكذا استمتع القاتل بالسجن

لم تنفَّذ الخطة كما وُضعت، فقد أطلق تروتسكي صرخة طويلة وقاتل مهاجمه حتى وصل الحراس.

ويقول فولكوف حفيد تروتسكي: "ما زلت أتذكر النظر إلى الباب المفتوح ورؤية جدي ملقىً على الأرض ورأسه غارق في الدماء، وسمعته يقول لشخص ما: (أبق الصبي بعيداً، لا ينبغي أن يرى هذا). أعتقد أن ذلك كان علامة على إنسانيته. حتى في لحظة مثل تلك كان قلقاً عليّ".

توفي تروتسكي في المستشفى متأثراً بجراحه، بعد أكثر من 24 ساعة من الحادث، وتمت محاكمة ميركادر وسُجن 20 عاماً تقريباً.

في أثناء فترة سجنه، وفَّر السوفييتيون له الراحة قدر الإمكان، وأرسلوا له المال كل أسبوع، وحتى قاموا بتوفير صديقة له: فنانة مكسيكية تدعى روكيلا، أصبحت زوجته فيما بعد ورافقته إلى موسكو بعد إطلاق سراحه.

توفي ميركادر بسبب إصابته بمرض السرطان في كوبا عام 1978، وكانت روكيلا بجانبه. ويقال إن كلماته الأخيرة كانت "أسمع صرخته دائماً. أعرف أنه ينتظرني على الجانب الآخر".

علق هنا