بغداد- العراق اليوم:
في أواخر عام 1876، بنى الشاب الأميركي جون وارن غيتس حظيرة أبقار مسيّجة بأسلاك وسط مدينة سان أنطونيو في ولاية تكساس، وجمع فيها قطيعًا من أقوى الثيران وأشرسها في تكساس، على حد وصفه، فيما قال آخرون إنها كانت أبقارًا وديعة.
أعظم اكتشافات العصر!
كان غيتس يقبل رهانات من المتفرجين إن كانت هذه المواشي قادرة على اختراق أسلاك السياج الذي بدا واهيًا، لكنها لم تتمكن من اختراقه. وحتى عندما كان مساعد غيتس المكسيكي يثير الأبقار ويخيفها بمشعل في يده، فإن أسلاك السياج بقيت قائمة، لم تستطع الثيران اختراقها.
وهكذا، أخذ غيتس يبيع نوعًا جديدًا من الأسيجة، وسرعان ما توالت عليه الطلبات لشراء بضاعته السلكية. سُجلت براءة اختراع الأسلاك باسم جوزيف غليدن من ولاية إلينوي، وكانت الإعلانات التي تروّج لأسلاك السياج تسمّيها "أعظم اكتشافات العصر"، في حين أن غيتس نفسه تحدث عنها بلغة شعرية قائلًا إنها "أخف من الهواء، وأقوى من الويسكي، وأرخص من التراب". نحن اليوم نسميها ببساطة "أسلاكًا شائكة".
جون وارن غيتس
ربما تكون هناك مبالغة في وصف الأسلاك الشائكة بأنها "أعظم اكتشافات العصر"، حتى وإن ظهرت قبل أن يخترع غراهام بيل التلفون. لكن، في حين أحدث التلفون انقلابًا في الاتصالات، فإن الأسلاك الشائكة أحدثت تغييرات هائلة في الغرب الأميركي، أسرع من التلفون.
براري الغرب الأميركي
كان تصميم غليدن للأسلاك الشائكة حديثًا على نحو متميز، إذ كانت الأشواك المعدنية تُلف على سلك ناعم، ثم يُضفر سلكٌ آخر معه لمنع الأشواك من الانزلاق على السلك الأول. لاقت هذه الأسلاك الشائكة إقبالًا شديدًا بين المزارعين الأميركيين.
قبل سنوات على ظهور الأسلاك الشائكة، أصدر الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن قانونًا يجيز لأي مواطن صالح من المواطنين، بمن فيهم النساء والعبيد، أن يعلن ملكيته أرضًا تصل مساحتها إلى 0.6 كيلومتر مربع في الغرب الأميركي. وكل المطلوب منه هو بناء بيت عليها وزراعتها خمس سنوات.
يبدو الأمر بسيطًا، لكن براري الغرب الأميركي أراض شاسعة تكسوها أعشاب طويلة قاسية، ملائمة للأقوام الرحل، وليس للمستوطنين. كانت منذ زمن طويل أرض الأميركيين الأصليين، فيما كان مربو البقر يطلقون دوابهم للرعي فيها.
كان المستوطنون يحتاجون أسيجة لمنع الأبقار من إتلاف محاصيلهم، ولم يكن هناك من الخشب ما يكفي لإقامة أسيجة تمتد ميلًا إثر آخر. وإلى أن اختُرعت الأسلاك الشائكة، كانت البراري الأميركية فضاءً مفتوحًا، أقرب إلى المحيط منها إلى الأرض الصالحة للزراعة.
حبل الشيطان
أثارت الأسلاك الشائكة نزاعات حادة أيضًا، إذ حاول المزارعون إثبات ملكيتهم الأرض التي كانت أرض قبائل مختلفة من السكان الأميركيين الأصليين. ولا غرو أن هذه القبائل كانت تسمّي الأسلاك الشائكة "حبل الشيطان".
ألهبت الاسلاك الشائكة التوترات مع الهنود
كان مربو الأبقار يعملون وفق المبدأ القائل إن ماشيتهم تستطيع أن ترعى بحرية في سهول الغرب الأميركي. وكان مربي الأبقار يكره الأسلاك الشائكة لما تلحقه من جروح وعدوى خطيرة بأبقاره. وفي أوقات الصقيع، كانت الأبقار تحاول الهجرة إلى الجنوب، لكنها كانت تعلق بالأسلاك الشائكة وتهلك بالآلاف.
وفي حين أن الأسلاك الشائكة كانت تُستخدم لرسم حدود ملكيات قانونية، فإن أسيجة كثيرة مصنوعة منها كانت غير قانونية، تمثل محاولات للاستحواذ على أرض مشاعة لأغراض خاصة.
ومع انتشار الأسلاك الشائكة، اندلعت المعارك، واشتعلت "حروب قطع الأسيجة"، حيث كانت عصابات من الملثمين تقطع الأسلاك الشائكة، وتكتب تهديدات لأصحاب الأسيجة بألا يعيدوا بناءها. وكانت مواجهات تحدث بالأسلحة النارية تسفر عن وقوع قتلى.
"هذه ملكي أنا"
في النهاية، تدخلت السلطات لإنهاء حرب تدمير الأسيجة، وبقيت الأسلاك الشائكة قائمة. وإذا كانت الأسلاك الشائكة أثارت سخط رعاة البقر، فإن معاناة الأميركيين الأصليين منها كانت أشد مرارة. وأثار الجدل المحتدم حول حدود المزارع والملكيات بتسييجها سجالًا فلسفيًا. وأعرب الفيلسوف الانكليزي جون لوك، الذي تأثر بأفكاره الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، عن حيرته إزاء القضية المتمثلة في إمكانية امتلاك أرض بصورة قانونية. ففي زمن مضى لم يكن أحد يملك أي شيء.
كان لوك يرى أن كل ما نملكه هو قوة عملنا. وإذا جمعنا بين العمل والأرض التي توفرها الطبيعة بحرث التربة مثلًا، فإننا نجمع بين شيء نملكه وشيء لا نملكه، وبحرثنا الأرض تصبح الأرض ملكنا.
كان رأي لوك هذا هراء بنظر جان جاك روسو، الذي أعرب عن احتجاجه على شرور الملكيات المسيجة. وقال روسو إن الإنسان الأول الذي سيّج قطعة من الأرض، وأعلن "هذه ملكي أنا"، هو "المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني". ولم يكن روسو يقصد بذلك الثناء على هذا الإنسان.
لكن المعروف أن الاقتصادات الحديثة قائمة على الحقيقة القانونية المتمثلة في أن غالبية الأشياء، بما فيها الأرض والعقار، يملكها شخص أو شركة.
هكذا، تكون قصة الأسلاك الشائكة وكيف غيَّرت الغرب قصة حقوق الملكية وكيف غيَّرت العالم. وإذا كان قانون إبراهام لنكولن قد وضع قواعد تحدد مَنْ يملك ماذا في الغرب الأميركي، فهذه القواعد لم تكن تعني شيئًا قبل تنفيذها بإقامة أسيجة من الأسلاك الشائكة ترسم حدود هذه الملكية.
في هذه الأثناء، أثرى قطبا الأسلاك الشائكة غيتس وغليدن وكثيرون غيرهم. وفي السنة التي سجل فيها غليدن براءة اختراع السلك الشائك باسمه، أُنتج منه 51 كيلومترًا. وبعد ست سنوات، في عام 1881، أنتج المعمل الموجود في مدينة دي كالب في ولاية إلينوي 423 ألف كيلومتر من الأسلاك الشائكة، تكفي للالتفاف حول العالم عشر مرات.
*
اضافة التعليق