مهند حبيب السماوي
تتفشى في العصر الحاضر ظواهر جديدة انبثقت نتيجة التفاعل مع عالم التواصل الاجتماعي الذي عكس مايجري في العصر الرقمي من تحولات وتغييرات ومخاضات ادت الى استشراء سمات فريدة وغير مسبوقة مسّت كل جوانب حياة الانسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأدت الى تغيير نمط العلاقة بين الانسان والعالم بشكل كبير.
اصداء الاستغراق في مواقع التواصل الاجتماعي أمست واضحة جدا لدى العديد من الشرائح والطبقات والفئات الاجتماعية وعلى نحو بدا فيها ان بوصلة السلوك والتفكير والمعايير قد وقعت تحت تأثير مواقع التواصل التي تتمظهر في عدة تطبيقات اشهرها الفيسبوك وتويتر والانستغرام وسناب شات ويوتيوب ولينكدن والفايبر.
الأبحاث والتقارير التي تصدرها مراكز البحوث المختصة تؤكد على ان هنالك زيادة كبيرة يوميا، بل في كل دقيقة ، باعداد مستخدمي هذه التطبيقات، فهنالك حوالي 3 مليار و 700 مليون مستخدم للشبكة العنكبوتية، ويوجد تقريبا 2 مليار و 700 مليون ناشط شهري على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة والتي امست جزءا من روتينهم اليومي الذي يتعذر عليهم التخلي او الابتعاد عنه.
ومن بين الشرائح الاجتماعية التي امسى للفيسبوك حضور طاغ في حياتها وسلوكها ورؤيتها للاحداث وطريقة عملها، رجال الاعلام سواء من كان يتمتع منهم بالاستقلالية او الذين يعملون في الوكالات الصحفية والقنوات الفضائية والصحف والاذاعات وغيرها من المؤسسات العاملة في مجال الاعلام ويرتبطون ايديولوجيا بفكر الحزب او الشخص الذي يموّل القناة.
السمة الاساسية التي طبعت سلوك " العديد " من الاعلاميين في العصر الرقمي هو انهم اصبحوا مهووسين بمواقع التواصل ويضعونها كأولوية وهم يحاولون التسويق لانفسهم …وبعبارة اخرى اكثر صراحة، هم يضعون الفيسبوك نصب اعينهم في كل تصرف او قول يتفوهون به ، بل تصل المرحلة ببعضهم الى استجداء التفاعل من قبل المستخدمين ومحاولة الحصول على اكبر مقدار من اللايكات والمشاركات والتعليقات، وتجد بعض من هؤلاء الصحفيين يقوم، فيما بينهم وبين انفسهم ، بالدخول عدة مرات على نفس المنشور في تطبيق الفيسبوك في هاتفهم ليرون حجم التفاعل وازدياد اللايكات والتعليقات لدرجة اضحت فيها مواقع التواصل بمثابة تجارب لإعادة رسم معايير وقواعد تقييم صورة الاعلامي ورضاه عن نفسه، بل اصبح هذا الاعلامي ينظر لنفسه ويقيمها طبقا لحجم التفاعل الـذي يحصل معه على منصة الفيسبوك او غيرها من مواقع التواصل، وليس من خلال مقالاته او بحوثه او تحليله الرصين للأحداث.
تفكير الاعلاميين في الفيسبوك والشهرة " الرقمية "جعلهم يتركون الموضوعية ويهجرون المنطق ويضعون
المهنية في مرتبة ثانية، لأنها لا تأتي لهم بالتفاعل المطلوب الذي يراه على منصات التواصل، فليس المهم ان يكتب الاعلامي منشورا في صفحته متسقا مع المنطق او يقدم تحليلا يتسم بالموضوعية، بل المهم لديه ان يقوم بوضع منشور مثير، بغض النظر عن مصداقيته ، يحصل على تفاعل يُرضي نوازع هذا الاعلامي ويُشبع رغباته النرجسية…اما الموضوعية والمهنية والعقلانية فلتذهب، ببساطة، للجحيم!
الدراسات التي كشفت عن العلاقة بين اللايكات وشخصية الانسان كثيرة ، وقد اوضحت موخرا دراسة بريطانية لباحثون بجامعة ساوث ويلز ان هذا الكم من اللايكات الذي يتلقاه الانسان في صفحته لا يؤدي الى تحسين تقديره لذاته ولا يقوي ثقته بنفسه، بل على العكس من ذلك: ان اللهاث وراء الشهرة ومحاولة استقطاب مستخدمي التواصل الاجتماعي بمنشورات مثيرة تدل على ضعف الثقة بالنفس وعدم احترام الذات والشعور الواضح بالنقص ، وهذا مانلاحظه بوضوح فيما يصدر من بعض هذه النماذج على مواقع التواصل التي تكشف، للمراقب الموضوعي، حقيقة مايبحث عنه الإعلامي وما يتمنى ان يحصل عليه بعيدا عن شعارات الحقيقة والدفاع عن الشعب.
وعلى الرغم من ان التفاعل المتزايد يؤدي الى ضغط نفسي يضطر، بسببه، الاعلامي الى محاولة الظهور بافضل حال امام من يتابعون صفحته، بل يحاول الانسجام مع الرأي الغالب الذي يحقق له تفاعل كبير، على الرغم من ذلك الا ان الاعلامي يصر على هذا السلوك لانه يريد تقوية مركزه على الدوام وزيادة شعبيته ليكون مؤثرا وتصبح له قيمة ومكانة عند صاحب القناة التي يعمل لديه حتى لا يمكن التلاعب معه، فهو لديه، مثلا، ١٠٠ الف متابع! وحينما يكتب البوست يقوم العشرات بالتعليق له وتتقافز اللايكات والشيرات امامه...فيا مدير القناة الفضائية….اياك والعبث معه ! وحاول دائما ارضائه ! فهذا الاعلامي لديه الآف المتابعين! ويستطيع من خلالها ممارسة التسقيط او الابتزاز، او التأثير على قضية ما بالتعاون مع متابعيه.
ولذا تجد هذا الاعلامي " الفيسبوكي " ان صح التعبير، يقوم بمسح منشوره اذا حصل على تفاعل قليل او كان دون مستوى ماكان يتوقعه، ما يعني ان الهدف من المنشور هو الحصول على مزيد من الاعجابات وليس اي هدف اخر كما يزعم بعضهم، بل بعضهم يعلنها صراحة حينما يطلب من اصدقائه في الصفحة ان يقوموا بعمل مشاركة لمنشوره بأوسع نطاق لكي “ نغيض ال......” كما يقول بعضهم .
واستنادا لدراسة جديدة من جامعة برونيل في لندن فان المشاركات التي ينشرها اي مستخدم على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي تكشف الكثير عن سلوكياته وشخصيته واسراره، وفي هذا الصدد تؤكد تارا مارشال، أستاذة علم النفس في جامعة برونيل، على اننا اذا اردنا ان نفهم لماذا بعض الناس يكتبون عن موضوعات معينة على صفحتهم الشخصية في فيسبوك دون غيرها، فاننا يجب النظر الى رغبتهم في تلقي الاعجاب او التفاعل المطلوب من المتابعين.
وتستمر مارشال في تحليل هذه الظواهر وتشير الى ان بعض الاشخاص اذا لم يحصل على اعجابات كثيرة لمنشوراته فانه يشعر بنوع من الاقصاء عن مجتمعه الذي يحاول ان يتجنبه باي سلوك او منشور يجلب له مزيدا من التفاعل لكي يشعر بنوع من الاندماج او الانتماء الاجتماعي، وفي رايي ان الاعلامي يشعر بنفس هذا الشعور ولكن من منظور ومفهوم اخر، فهو يشاهد الكثير من الناشطين الذين لديهم الاف المتابعين ويتفاعل معهم المئات من المستخدمين ولذا يحاول ان يندمج مع نموذج هذا الناشط او يقلد سلوكياته التي أدت الى تأثر العشرات من المتابعين بمنشوراته، ولكل اسف يقوم هذا الإعلامي احيانا بالانحدار لمستوى التفاهة او الضحالة في منشوراته لانه يجد انها تأتي باعجابات وتفاعل اكثر من المنشورات الرصينة والتحليلات العميقة والرؤى الجادة.
وتنبه مارشال الى حقيقة اللايكات الكثيرة التي يحصل عليها بعض الاشخاص وتباهي بعض النرجسيين بها، وتؤكد انها لاتدل بالضرورة على الاعجاب بالمنشور بل هو مجرد اعجاب وهمي! يقدمه بعض الاصدقاء او الاشخاص غير الواعين الذين يكرهون هذه المشاركات في السر او لا تعجبهم لكنهم يقومون بعمل الاعجاب بها مجاملة او بلا وعي لمضمون المنشور، وتنصح مارشال صاحب المنشور، في النهاية، بالكف عن استجداء اللايكات بمنشوراته وتجنب نشر مواد مسيئة للاخرين او بعيدة عن الحقيقة.
ان محاولة الإعلامي التفكير بالمتابعين على صفحته الشخصية والانسياق وراء الاثارة والشهرة بعيدا عن توخي الدقة والتحلي بالموضوعية ستؤدي بلا شك الى إشاعة ثقافة متدنية تحجب الحقيقة وتستبعد المعرفة الصحيحة وتستبدلها بخطاب شعبوي ساذج يُعطل العقل ويَشل التفكير ويروّج للخرافات والاكاذيب التي تسيطر الان على مواقع التواصل الاجتماعي.
*
اضافة التعليق