بغداد- العراق اليوم:
الفريق الدكتور سعد معن ابراهيم
في عصرٍ يتزايد فيه الاعتماد على المنصات الرقمية كمنابر للتعبير والتفاعل، نشهد تحولاً خطيراً في طبيعة التأثير الذي تمارسه هذه الوسائل على النسيج المجتمعي، وعلى استقرار الدول. فقد أصبحت الكلمات تُطلق كالرصاص، تُؤجج المشاعر، وتُؤسس لاستقطابات حادة تتجاوز حدود الشاشات لتُترجم – أحياناً – إلى عنف ملموس في الشوارع والمؤسسات ، في استغلال واضح لأجواء الحرية التي أنتجتها الحكومة في مسعى لتعزيز اسس الديمقراطية في البلاد والتي يجب ان تكون ممارستها بمسؤولية خلاقة تقدم مصلحة العراق وشعبه على المصالح الفئوية الضيقة . لقد رصدت الأجهزة الأمنية، خلال السنوات الأخيرة، نمطاً متكرراً من التصعيد يبدأ بخطابات مستفزة في الفضاء الإلكتروني، تتخذ طابعاً طائفياً أو أيديولوجياً أو مناطقياً، وتستهدف مجموعات بعينها، إما عبر التحقير أو الاتهام أو التشكيك في الولاء والانتماء. واحيانا اخرى تدخل في شؤون الدولة العامة ومساس بأمنها القومي . ولا يخفى على المختصين أن هذا النوع من المحتوى – وإن بدا عابراً – يُعيد تشكيل وعي المتلقين، ويؤسس تدريجياً لحالة من “الفرقة الرقمية” التي تُقوّض مفاهيم التعايش، وتُشعل فتائل الكراهية. ومن منظور أمني، فإن ما يدعو للقلق ليس فقط محتوى هذه الخطابات، بل سرعة انتشارها، وسهولة إعادة إنتاجها، وضعف الفلاتر الأخلاقية لدى بعض المستخدمين، بل والأخطر من ذلك قابلية بعض العقول للاشتعال. فبيئة الاستقطاب المستمرة تُنتج أفراداً على استعداد للانتقال من مرحلة الغضب الافتراضي إلى الفعل الواقعي، عبر التهديد، أو التخريب، أو حتى ارتكاب أعمال عنف مادي بدوافع أيديولوجية أو انتقامية. إن مسؤوليتنا الأمنية لا تقتصر على ضبط الأفعال بعد وقوعها، بل تمتد إلى رصد المؤشرات الأولية، والتدخل في مراحل مبكرة عبر أدوات التحليل الرقمي ومتابعة الحسابات التي تُمارس التحريض أو تنشر خطابات الكراهية الممنهجة. كما أن التعاون مع منصات التواصل أصبح ضرورة لحذف المحتوى الضار، وكشف الجهات التي تقف خلف الحملات المنظّمة لتفكيك المجتمعات. لكنّ المواجهة لا يمكن أن تكون أمنية فقط. فثمة حاجة ماسة إلى خطاب توعوي بديل، وإعلام مسؤول، ومؤسسات تعليمية تُربّي على التفكير النقدي والمواطنة الرقمية. كما أن للأسرة والمجتمع دوراً لا يُستهان به في تحصين الأفراد – لا سيما الشباب – ضد الانجراف وراء الحملات المضللة، أو الشعور بالاغتراب الاجتماعي الذي يجعلهم فريسة سهلة للتعبئة والتحريض. ان حماية السلم المجتمعي في زمن الفُرقة الرقمية يتطلب وعياً جمعياً، وشراكة حقيقية بين المواطن والدولة، تقوم على الثقة، والشفافية، والعمل المشترك لمواجهة العدو الخفي وهو العقول المُشتعلة. بالختام، يمكن تلخيص جوهر الموضوع في أن الفُرقة الرقمية لم تعد مجرد ظاهرة افتراضية، بل أصبحت عاملاً مهدداً للاستقرار المجتمعي والأمني. فحين تُترك العقول عرضة للتحريض دون وعي أو حصانة فكرية، تتحول الكلمة إلى شرارة، والرأي إلى سلاح. لذا، فإن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب توازناً
*
اضافة التعليق