بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
في مطلع شبابنا، وفي ذروة حماسنا الثوري الناهض سوياً مع المد اليساري في العراق و بلدان المنطقة، وتحديداً من نهاية ستينيات القرن الماضي حتى منتصف التسعينيات، كنت وعدد من زملائي اليساريين والتقدميين الذين سيصبحون نجوماً لامعة في سماء الثقافة والإبداع العراقي، نؤيد الحركات الثورية المسلحة التي تناضل من أجل الحرية بمختلف أشكالها الطبقية او الوطنية أو القومية، حتى كنا نتمنى الالتحاق مثلاً بالمنظمات الفدائية الفلسطينية اليسارية، او بالجبهة الديمقراطية لتحرير الصومال، او حركة تحرير ظفار التي حملت اسم الجبهة الشعبية لتحرير عمان، أو بالجبهة الشعبية لتحرير أريتريا، وكم حلمنا بالالتحاق بالجبهة الساندينية لتحرير نيكاراغوا التي كان يقودها أورتيغا لإسقاط الدكتاتور سوموزا وسلالته العفنة .. لقد كانت قلوبنا تخفق مع أي منجز ثوري تحققه أية حركة تحرير ثورية في العالم.. ولا تستغرب عزيزي القارئ حين تعرف أن العراقيين كانوا يشكلون أكبر نسبة من الفدائيين العرب في صفوف المنظمات الفلسطينية، وأن أشد العمليات الفدائية بسالةً وتأثيراً، كان أبطالها من المتطوعين العراقيين، وهذه حقيقة يعترف بها الفلسطينيون أنفسهم .. لذلك، وما أن أعلن عن تأسيس حزب العمال الكردستاني ( PKK ) في منطقة كردستان تركيا في أواخر السبعينيات أو مطلع الثمانينيات، و رفع الستار عن هويته اليسارية الثورية، وسعيه لإقامة دولة ماركسية لينينية في كردستان تركيا، وتحرير الشعب الكردي الذي كان يعاني على يد أنظمة الحكم التركية من ظلم كبير ..اضافة إلى موقف الحزب المعادي للكيان الصهيوني الذي جاء على ألسنة أغلب قادة الحزب، بدءاً من الرئيس أوجلان ومن ثم نائبه مصطفى كاراسو ،مروراً بالقيادية البارزة هوليا أوران، وليس انتهاءً بالقائد العسكري لحزب العمال الكردستاني مراد قرايلان، او غيرهم.. أقول، كان الإعلان عن تأسيس هذا الحزب أمراً مفرحاً ومثيراً جداً لنا نحن شباب العقدين السبعيني والثمانيني من القرن الماضي، لذلك نال إعجابنا وتعاطفنا حالاً، وقد زاد تفاعلنا مع هذا الحزب الثوري، نجاح عملياته المسلحة ضد القوات التركية وعملاء النظام من (جحوش تركيا) في عام 1984 ، تلك العمليات (النظيفة) التي أوجعت النظام التركي دون أن تمس المدنيين أو تتعرض للمواقع والممتلكات العامة .. ولعل أبرز أسباب دعمنا لحزب العمال الكردستاني يعود إلى أن صراعه المسلح مع الدولة التركية لم يكن من اجل إسقاط السلطة والحصول على مكاسبها المادية السلطوية، إنما كان بغية نيل الحقوق الثقافية والسياسية وتقرير المصير للشعب الكردي التركي .. لكن وبعد نهاية عقد الثمانينيات، ودخولنا سن الأربعين، أي السن الذي يعتبر نقطة التحول بالنسبة للعقل - حسب مفهوم البروفسور كولن مكنزي، بدأت أشياء كثيرة تتغير في تفكيرنا وحياتنا، ومن بينها حماستنا الثورية والمغامراتية التي أصابها الكثير من الفتور، فصرنا نفكر بقلوبنا وعقولنا وليس بقلوبنا فقط، وقد تصادف ذلك مع غروب شمس الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي. ومع هذا فقد بقينا اوفياء مخلصين لعقيدتنا ومبادئنا الفكرية، فنتابع بحزن ما يحدث في مسار حزب العمال من انحراف عن خطه التحرري وهدفه الإنساني الذي تأسس من اجله، وقيام مسلحيه للأسف بارتكاب جرائم قتل طالت الأبرياء العزل، ولم تستثنِ حتى الأطفال، ناهيك من عمليات التفجير العشوائية في محطات المترو، و وقوف الباصات، حتى يقال إنهم قتلوا في سنوات معدودة أربعين ألف شخص، ولم تقتصر عملياتهم على أفراد الجيش التركي فقط، بل شملت موظفي الدولة ومواطنين عاديين أتراكاً وأكراداً أيضاً، كما شملت بعض السائحين الأجانب، فضلاً عن ضرب المصالح التركية بالبلدان الغربية.. ومن كل هذه المواقف والمتغيرات، صرت أنظر لحزب العمال الكردستاني نظرة مختلفة، خالية من تلك العاطفة والمشاعر الجياشة، خصوصاً بعد أن وضع على لوائح الإرهاب من قبل عشرين دولة ..! لكن تأييدي ودعمي لحق الشعب الكردي في تركيا بتقرير مصيره ونيل حريته لم يهتز أو يتغير قيد أنملة لذلك كانت صدمتي باعتقال زعيم حزب العمال عبد الله أوجلان عام 1999 شديدة لاسيما وأن عملية اعتقاله تمت بطريقة يمكن تفاديها لو تخلى أوجلان عن غروره وإحساسه المفرط بالعظمة، وتعامل مع المخاطر بواقعية وجدية خاصة وأن هناك اكثر من جهة ودولة كانت تخطط لاعتقاله وتسليمه لتركيا من بينها جهاز الموساد الإسرائيلي.. إن اعتقال أوجلان كان دون شك سبباً في تكبد الحزب خسائر سياسية وعسكرية وتنظيمية مهمة، وحصول انهيارات واعترافات عديدة لايسع المجال لذكرها هنا، كما أن سنوات السجن الست والعشرين المرّة التي قضاها اوجلان في سجنه الانفرادي المعزول في جزيرة ( إمرالي)، لم تضعف جسده الصلب، وتغير من ملامحه القوية فحسب، إنما أضعفت روحه وعزيمته ومعنوياته أيضاً، وقد ظهر ذلك عبر سلسلة التنازلات القومية والحزبية المتواصلة التي قدمها لطغاة أنقرة طيلة فترة اعتقاله، كان آخرها قراره بإلقاء السلاح، ومطالبة رفاقه بحل الحزب أيضاً، حيث جاء ذلك في رسالة منه القيت بالنيابة عنه..! والمؤلم أن رسالة اوجلان هذه وتنازلاته لم تحرك لدى الطغمة الحاكمة في تركيا سوى رغبة الحصول على المزيد من التنازلات المذلة، وقد جاء ذلك بوضوح على لسان اردوغان شخصياً، ومنها مطالبة الأكراد - كل الأكراد وليس حزب العمال فقط، سواء في سوريا أو تركيا أو العراق أو في أية بقعة في المنطقة، بالاستسلام وانتظار أوامر وفرمانات سلطان أنقرة الخرف !! ثمة فرق يجب أن يعرفه قادة حزب العمال، ومفاده أن اردوغان لايريد سلاماً إنما يريد استسلام الحزب والشعب الكردي ! أما الآن وقبل أن أختم مقالي دعوني أروي لكم هذه المفارقة الفكهة التي رواها لي صديقي أحد الإعلاميين الكرد الكبار، الذي عملت بصحبته قبل خمسة وعشرين عاماً عن حادثة وقعت له مع عبد الله أوجلان ومام جلال الطالباني.. وبالمناسبة فإن صديقي هذا هو صديق مقرب للطالباني.
حيث يقول صديقي : اصطحبني مام جلال في يوم ما لزيارة عبد الله اوجلان لأول مرة في مقره وقد كنا نسير على اقدامنا خلف (بغل) قوي وعنيد، كان البغل يقودنا بين الجبال والوديان والطرق الوعرة .. وعندما وصلنا مقر اوجلان، والتقينا به، وجلسنا معه، وجدته رجلاً مغروراً، وعنيداً، لا يستمع لنا، ولا يسمح لغيره بالحديث قط، رغم أن كاكا جلال صديقه الشخصي، ورغم أن زيارتنا له كانت زيارة مهمة، ولدينا الكثير لنقوله، لكنه لم يسمح لنا بقول ما نريد، إنما كان هو المتحدث الوحيد فقط ..! وحين خرجنا منه، وعدنا نسير خلف البغل، نقلت لمام جلال رأيي ومشاعري تجاه أوجلان، وقلت له: كاكا جلال الله يخليك، هذا الغبي شلون يقود حزب وحركة ثورية شكبرها ؟! ضحك مام جلال وقال: شوف كاكا، منو هسه جاي يقودنا ويمشي گدامنا آني وياك بهاي الجبال ؟ قلت له: طبعاً البغل .. فضحك وقال: لعد خلص كاكا، نوبات الظروف تحتاج إلى بغل يقودك !
مام جلال وعبد الله اوجلان
*
اضافة التعليق