كيف أغتالت مخابرات صدام، الشيوعي العراقي توفيق رشدي في عدن وماهي ردة فعل حكومة اليمن الشعبية؟

بغداد- العراق اليوم:

 

الدكتورة منيرة أميد

توفيق رشدي هو شيوعي وبروفسور عراقي، كان قد وصل (عدن) اواسط السبعينات، ليعمل أستاذاً في جامعتها.  

سكن في حي (المنصورة) في شقة تعود ملكيتها للدولة، ومخصصة لسكن منتسبي وزارة التربية والتعليم اليمنية ، لان ضمن النظام الذي كان معمولاً به في دولة اليمن الديمقراطية، ان كل وزارة مسؤولة عن توفير سكن للعاملين فيها، اي ان معظم الساكنين هم من المدرسين في الثانويات وكليات (جامعة عدن)، والتي كانت (دولة الكويت) تدفع رواتبهم كجزء من معونة لهذه الدولة العربية الفتية، وفق عقود عمل توقعها وزارة التربية والتعليم اليمنية مع من تحتاجهم من اساتذة ومدرسين وبمختلف الاختصاصات .

أحبه طلبته وزملاؤه وكل جيرانه، لتواضعه الجم، ولامكانياته العلمية وثقافته الواسعة .

وفي مساء صيفي حار من الاسبوع الاول من شهر حزيران 1979، كمنوا له، وهم طبعاً يعرفون كل خطواته،

كان قد خرج ليقوم بجولته المعتادة في المشي، فقرروا انتظاره بالقرب من العمارة التي يسكن فيها.

كان "البروفسور توفيق رشدي" شخصية حذرة جداً ، وكان لا يفتح باب شقته حتى يتأكد من الطارق، لذا فضلوا ان ينتظروه عند المنعطف الى بيته .

وقد كان الظلام لم يحل وقتها بالكامل بعد .  

فعندما وصل، نزل أحدهم من السيارة ليخبره أن الموافقة على طلبه قد وصلت منذ فترة، وأنهم أتصلوا به مراراً، لكنهم لم يجدوه، وطلبوا توقيعه على ورقة معينة.  

عندها قال انه لا يستطيع قراءة الورقة بسبب الظلام وانه لا يستطيع ان يوقع عليها دون أن يعرف محتواها،

اقترحوا عليه أن يدخل السيارة لقراءة الورقه على الضوء الموجود داخلها، لكنه رفض، وعندها حاولوا ادخاله بالقوة مشهرين عليه مسدساتهم، لكنه لقوته تمكن من الافلات منهم، وبدأ في الصراخ :

- "السفارة العراقية تريد قتلي" ....

في تلك اللحظة افرغوا رصاص مسدساتهم فيه وصعدوا سيارتهم وولوا هاربين على الطريق البحري، ليصلوا الى مبنى السفارة العراقية ويختبأوا فيها.

ولكي لا تموت الجريمة، كان هناك شاهد سمع كل شئ، هي فتاة عدنية   واقفة في شرفة منزلها ولم يلحظها القتلة، فاتصلت بالشرطة  واخبرتهم بكل شئ.

في الوقت ذاته كانت دوريات الامن في منطقة (خور مكسر) قد لاحظت  سيارة مسرعة ، مطفئة الانوار تدخل المنطقة، ولم تتوقف لدى الاشارة الها. مما اضطرهم الى متابعتها،  حتى دخلت مبنى السفارة العراقية. فأعلموا السلطات العليا بذلك.

نزل خبر أغتيال "البروفسور توفيق رشدي"، والذي عثر عليه غارقاً في دمه، وقد فارق الحياة على بعد خطوات من بيته، كوقوع الصاعقة.

استنفرت الدولة كل أجهزتها الأمنية، واصيب الجميع بالذهول. فقد كانت اول جريمة من هذا النوع تقع في هذا البلد المسالم الهادئ، والذي كان يعج بأعضاء من كل حركات التحرر العربية.  مما اوجب على الحكومة أن تأخذ موقفاً حازماً.  حتى لا يفكر اي طرف آخر للجوء الى هذا التصرف وتصفية خصومه السياسين على أرض اليمن الديمقراطية، كما كانوا يشعرون بأهانة كبيرة وبجرح في كرامتهم.

فكان القرار قد اتخذ :

[ ان لا تمر الجريمة بدون عقاب ] .

ويجب جلب الجناة الى المحاكمة .

وبما ان القتلة من (الدبلوماسيين)، وأتخذوا من السفارة ملجاً لهم، لذا تم دعوة كافة أعضاء السلك الدبلوماسي الموجودين في عدن وبضمنهم السفير العراقي الى مبنى وزارة  الخارجية اليمنية الجنوبية، واحيطوا علماً بكل تفاصيل الجريمة  وفي ذات الوقت كانت قوات يمنية جنوبية قد حاصرت مبنى السفارة العراقية .

ولما امتنع الجناة عن الخروج من مبنى السفارة، اطلقت إحدى الدبابات قذيفة واحدة نحو مبنى السفارة مما اضطر المطلوبون الى الخروج ورفع رايات بيضاء معلنين عن تسليم انفسهم .

اما في بغداد، فقد كان نظام البعث قد قطع الماء والكهرباء وسبل الاتصال عن سفارة اليمن الجنوبية وبشكل كامل منذ اليوم الاول للاحداث، ثم امطرت نحوها بوابل من النيران.

كما طرد كافة الطلاب اليمنيين من جميع الجامعات والمعاهد العراقية.

في عدن أعلن عن يوم التشييع في منطقة سكن "البروفسور الشهيد" .

فكنت  ترى الحشود وهي تقبل على المنطقة من كافة شرائح المجتمع اليمني؛ نساء، اطفال، شيوخ شباب، طلبة المدارس والكليات، موظفين وعمال، وكذلك قادة الدولة والحزب يتقدمهم الأمين العام للحزب الأشتراكي اليمني عبد الفتاح إسماعيل.

مع كافة الأشكال النضالية والنقابية وممثلي المنظمات العاملة في عدن والسلك الدبلوماسي الاجنبي والعربي وجميع الجاليات.

لقد خرجت (عدن) عن بكرة أبيها وفي حالة لم تشهد لها مثيل من قبل .

فالجميع مفجوع بما حدث .

فسارت الجموع في موكب مهيب، تتقدمهم القيادة الجنوبية، لتشيع الجثمان الى مثواه الاخير في إحدى مقابر مدينة (الشيخ عثمان)، مروراً بالاحياء والاسواق التي كانت تقفل ابوابها لتلتحق بالموكب وهي تهتف :

"يا بغداد ثوري ثوري ... خللي البعث يلحق نوري".  

فوصلتها مع الغروب، وكانت  شمس المغيب تصبغ السماء بحمرتها والحشود تهتف :

"سنمضي سنمضي الى ما نريد ... وطن حر وشعب سعيد" .  

بينما الدموع تنهمر من عيون الرجال والنساء على السواء.

ولا أعتقد ان تلك اللحظات المهيبة ستنسى من ذاكرة من شهدها. بعدها بفترة وجيزة بدأت مجريات المحاكمة العلنية والتي كانت تبث من قاعة المحكمة على الهواء مباشرة،  وشخوصها البارزة على ما اتذكرهم:

"القنصل العراقي/عبد الرضا سعيد"

وكان من أهالي بعقوبة،

"سمير بشير" من أهالي الموصل، ولا أذكر بالضبط ان كان مستشاراً او ملحقاً في السفارة وحارس السفارة الذي لم أعد أتذكر أسمه .

تلك كانت محاكمة حقيقية كشفت كل شي امام الرأي العام اليمني والعربي والعالمي وعلى الهواء مباشرة في دولة العدالة الأجتماعية، دولة النظام والقانون في (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).

ختاما، ليس لنا سوى أن نذكر بكل أحترام وتقدير وإجلال كافة أعضاء وقادة حكومة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) الاحياء منهم والأموات، الذين رفضوا المساومة على كرامتهم ومبادئهم، رغم أن حكومة العراق كانت تمنحهم معونة مادية سخية قطعتها على أثر ذلك الموقف الشجاع، وهم كانوا بأمس الحاجة لها .

علق هنا