خريف البلد الكبير.. رحلة بحث عن يوتوبيا الذات

بغداد- العراق اليوم:

بين رجل انشغل بهموم وطنه وآخر انغلق على قضيته الشخصية فجوة كبيرة تمتد لمئات السنين لكن الإعلامي والروائي المصري محمود الورواري أقام بينهما جسرا من الخيال فكان لقاؤهما في (خريف البلد الكبير). تبدأ الرواية، الصادرة بالقاهرة في 311 صفحة من القطع المتوسط، في وقت ما بعد انتفاضة 25 كانون الثاني 2011 حين يتلقى السفير رشدي الشيخ الذي يتولى منصبا خارج مصر اتصالا هاتفيا أثناء عطلة صغيرة في القاهرة من صديق دراسة قديم يقتحم حياته بصندوق خشبي يحوي مخطوطات قديمة ويتركه له ثم يرحل. ولدوافع ربما لم يقدم المؤلف الكثير منها للقارئ يأخذ السفير الصندوق الخشبي ويحمله إلى صديق آخر خبير بالمخطوطات ويعيش في الإسكندرية حتى يفك طلاسم المخطوطات ويكشف ما فيها من حكايات. يتحمس الخبير لما اعتبره “كنزا أثريا” رغم عدم قدرته على تحديد الفترة الزمنية التي تعود لها المخطوطات ويستدعي صديقا آخر لمساعدته في العمل على تفسيرها مكونين فريقا بحثيا متكاملا. ورغم البداية المستوحاة من عالم الحكايات والأساطير فإن ما تبوح به المخطوطات القديمة يبدو أعمق وأكبر ومُحملا في طياته بحكايات العظمة والانكسار والخيانة والصمود.. حكايات الأمس واليوم والغد التي ما تلبث أن تنتهي حتى تعود لتبدأ من جديد. تحكي المخطوطات قصة بلد أسسه “الشيخ الكبير” وهو البطل الموازي الذي اكتفى المؤلف بمنحه هذا الاسم وكان يتحلى بالحكمة والشجاعة فأنشأ مع ثلاثة من رفاقه بلدا من العدم يحده من الخلف جبلان والبحر من أمامه ليعيش كل من يقصده في أمان ووئام. يرسم المؤلف ملامح مدينة فاضلة أو “يوتوبيا” من وحي خياله اسماها “البلد الكبير”. وازدهر البلد وقوي وأقام تحالفات تجارية وسياسية مع جيرانه وحتى الأبناء كان لهم نصيب من التفكير والتخطيط فأخذهم الشيخ الكبير إلى “الجزيرة المعزولة” حيث تعلموا وتدربوا وأصبحوا أشداء. لكن (هادي) أكبر أبناء الشيخ الكبير وصديقه (راغب) كانا من الممتنعين عن الذهاب للجزيرة وفي لحظة ضعف من الشيخ الكبير بقيا من دون الأطفال الآخرين. كبر الصديقان ونبتت فيهما صفات مغايرة لتلك التي ذرعها المؤسسون الأولون في أطفال البلد فكانا هما الثغرة التي استغلها الغرباء ونخروا منها في عظام المدينة الفاضلة وأحالوها إلى مدينة الملذات والفساد ويموت الشيخ الكبير محسورا بعد أن انشغل بالبلد الكبير عن ابنه الكبير. وبالتوازي يتابع المؤلف سرد يوميات بطله الرئيسي السفير رشدي الشيخ الذي يفقد كل ما بناه طوال حياته خلال أيام معدودات فتعيده وزارة الخارجية لعمل إداري بالقاهرة وتطلب زوجته الطلاق ولا يجد منقذا من هذا إلا شبح حبيبته القديمة (فاطمة) التي تخلى عنها في شبابه ليتزوج من ابنة دبلوماسي كبير أدخلته عالمها الارستقراطي وساعدته على القفز سنوات للأمام. وبالوصول للنهاية لن تكون دروس الشيخ الكبير وصحوة رشدي الشيخ هي كل ما يفوز به القارئ فعلى امتداد صفحات الرواية يتعمق المؤلف في وصف شوارع البلد الكبير وأسواقه ومنازله ومتاجره وحتى حقوله وشواطئه مقدما صورا جمالية لا تقل إبداعا عن الصور البيانية والاساليب البلاغية المستلهمة من القرآن الكريم في وصف الأحداث والأشخاص والأماكن. والرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية هي الثالثة لمحمود الورواري بعد (مدد) في 2014 و(حالة سقوط) في 2007 التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكرالعربية.

علق هنا