بغداد- العراق اليوم: منذ انطلاق قطار العملية السياسية في عراق ما بعد الدكتاتورية والى الآن، لا ينفك الجميع يتحدث عن ضرورة الخروج من النفق الطائفي- القومي الذي بنيت عليه هذه العملية، والذي اصاب العراق بمقتل، وأنتهى بالعملية السياسية من كونها جامع للعراقيين الى عامل اقتتال داخلي وتفرقة أثنية – طائفية بغيضة استنزفت موارد العراق العملاقة، وأتت على سيادته كدولة ذات تأثير إقليمي ودولي. فيما بقي الخطاب السياسي " ديماغوجيًا" بالمجمل، يجتر مفردات " الكتل العابرة" والخروج من التخندقات الى الفضاء الوطني، وتفعيل مبدأ المواطنة فوق الانتماءات الجانبية الممزقة، وغيرها من الشعارات التي راجت، بعد أن اضطر العراقيون الى الهتاف في ساحات التظاهر في بغداد والمحافظات، بأن وحدة العراق فوق الجميع، وأنهم لا يريدون سوى دولة مدنية ديمقراطية تنتهج مبدأ العدالة الاجتماعية لا غير، ولا ترفع سوى شعار " القانون فوق الجميع وعلى الجميع", وحين وجدت الاحزاب السياسية ( شيعيتها وسنيتها وكرديتها) أن مزاج الشارع العراقي بدأ يتغيير، تكيفت كالحرباء مع هذا المزاج، لكنه تكيف ظاهري، لم يمس الثوابت العميقة للطائفية والاثنية والقومية والحزبية التي تبدو راسخة أكثر من كونها هويات مصالحية ذرائعية أستخدمت كمطية للعبور نحو السلطة، ابدًا، بل أن منهج بعض القوى السياسية هو ذاته منهج مختنق بذاته، ومنغلق على كينونته الداخلية، ورافض للأخر، شكلاً ومضموناً، وما قبوله بالتنوع الموجود حالياً، الا قبولاً أختيارياً، بل وكما يقال " مجبر اخاك لا بطل "!. بمعنى أدق ان ثمة مناهج طائفية وقومية تأبى ان تتفكك لتبدلات المزاج، بل تحتاج الى معاول حقيقية لهدم هذه الأسس وبناء منظومات سياسية أخرى، لأن بناء الأيدلوجيات السابق، وكما يبدو لن تنفع معه خلطات " التجميل" ونثر " توابل " الشعارات الشفافة والبراقة، فمن الداخل تجد ذات بؤرة التخلف واللا وطنية هي من تتحكم وتجمع نحوها كل مراكز الجذب الداخلي. من هنا كان خطاب وتوجه بعض القوى الوطنية، شكلاً ومضموناً، يبدو غريباً في الساحة السياسية العراقية، أن لم يكن شاذاً، فيما الحقيقة أن كل الخطاب السياسي المجاور هو الشاذ، بينما خطاب تلك القوى هو العقلاني والمنطقي الوحيد، ومن هذه القوى مثلاً الحزب الشيوعي العراقي الذي رفض وأصر، وواصل نهجين في آن واحد، نهج متصدي لكل من كان يدعو الى لعن العراق الجديد، سواء أكان من بقايا النظام المباد والتيارات التكفيرية والطائفية، او من بعض دول الجوار التي حاولت جاهدًة إسقاط التجربة الديمقراطية بكل ما اوتيت من قوة وبأس وأموال بترولية. فكان رفض الحزب لهذا المنهج التدميري جزء من التزاماته الوطنية والسياسية والأخلاقية تجاه الشعب العراقي، بل وقدم الحزب خيرة قادته في مواجهة قوى الإرهاب والتكفير، ومنهم الشهيد المناضل المتنور كامل شياع وعشرات القيادات الشيوعية التي استهدفتها يد الظلام والإرهاب. أما النهج الثاني فهو النهج النقدي التقويمي والتصحيحي الذي مارسه الحزب الشيوعي بقوة في صحفه ومنشوراته وخطابات قادته، بل وصل الأمر الى التظاهر لسنوات دون انقطاع في ساحة التحرير ضد قيادات الفساد في الحكومة العراقية. لقد تلازم المنهجان في انشطة الحزب الشيوعي دون ان يتقاطعا في مواجهة تجاوزات الداخل والخارج. الحزب الشيوعي في مواجهة الإقطاعيات السياسية والقومية! في المقابل ثمة منهج اخر، كان طائفياً – قوميًا، اختزل نضالات الشعب العراقي في تمثيل طائفة واسعة، لتختزل فيما بعد الى عوائل إقطاعية (دينية وقبلية)، والى أخرى قومية اختزلت ايضاً الى بيتوتات، كآل البرزاني وغيرهم، فكان الحزب يبحث وينادي ويصرخ وسط هذا الجو بضرورة فسح المجال للخطاب الوطني العابر لتلك التكتلات، وضرورة بلورة خطاب يتجاوز مصالح العوائل والطوائف الى خطاب عراقي محض، لا ينشد تحقيق هدف سوى المصلحة الوطنية الحقيقية. واقع أم حلم شعراء ؟ طبعاً، كان يبدو الخطاب أعلاه رومانسياً حالماً، بل وكما قد وصف أحد الكتاب مرةً خطاب الحزب الشيوعي أنه مجرد أحلام شعراء، وأماني أدباء لا شغل لهم سوى التفكير بلحظة لن يصلها العراق أبداً، وإن كان يأس البعض ينطلق من نظرة تشاؤمية واقعية كما تبدو في ظل استعار نار الطائفية واحتراب فئات الشعب، لكن المقولة التي تقول " تشاؤم الواقع وتفاؤل الإرادة" هي الأقرب للتعبير عن واقع خطاب الشيوعيين وامثالهم من التيار الوطني الرافض لمنهج الطائفية والقومية الاقصائي، وكان الرهان على إرادة الحياة هو الأًصح والنظرة الأقرب للحقيقة، فما معنى ان يموت ألوف الشيعة والسنة والكورد كيما ينعم ساسة الطوائف والقوميات وحواشيهم بنعم العراق وخيراته؟ واذا ما اختبأت تلك الحقيقة وراء القداسات والزيف الديني، فأن الواقع كما يقول هيجل يسخر من الجميع، وحينها سيفتضح أي غبن يلحق بفئات الشعب جراء استمرار هذه اللعبة. في الحقيقة كان من الممكن أن يستمر خطاب الطوائف والتحاصص والتغانم طويلاً لولا قدرة العراقيين على فهم الواقع وبلورة حقائقه على الأرض، فكان الجميع قد اصطدم بحقيقة واحدة مفادها : أن جمهورية الطوائف لن تجلب سوى الموت والعار للعراقيين ولن تصل سفينتهم الى شاطئ الأمان ابدًا، ما دام هذا النهج قائماً. قوى متجاوزة للواقع ! في هذه اللحظة وبعد 14 عاماً، ينجح الحزب الشيوعي وقوى وطنية أخرى مؤمنة بقدرة العراق على تجاوز محنه، على تسديد ضربة موجعة لهذا النهج، عبر تشكيل أول تحالف انتخابي حقيقي عابر للمكوناتية والطائفية والقومية، ولا ينتهج سوى المواطنة سبيلاً ومنهجاً، وتشترك فيه نخب وكفاءات عراقية وضعت كل الانتماءات الفرعية جانباً وقدمت الانتماء الوطني الأكثر احتراماً للعراق ووحدته ومشروعه، إذ أنبرت هذه الفاعليات والقوى والشخصيات الوطنية الحقيقية لتشكيل تحالف " سائرون" الانتخابي الذي يمثل عصارة الجهد الوطني، والمخاض الطويل والمضني الذي اختارته قوى مدنية، شهد بعضها تحولات راديكالية جذرية في مسيرته لكنها تحولات عراقية صرفة، فيما أبقى البعض الأخر نفسه بعيدًا وبمسافات طويلة عن اللهاث وراء المغانم والتحاصص. تقارب سياسي فريد ! انتج التقارب على أسس وطنية، تحالفاً فريدًا بين القوى الوطنية العراقية التقدمية والعلمانية وقوى إسلامية عراقية اتسمت بمراجعة الخطاب الذي تتبناه، ومنهج نقدي حقيقي متواصل، تحالفًا فريدًا في المشهد الانتخابي العراقي الذي لم يشهد له تاريخ المنطقة مثيلاً، حيث يتقارب البعض المختلف ايدولوجيا او عقدياً على أسس ومفاهيم تجسر هذه الهوة، بل وتردم التقاطعات الفرعية، فهو تحالف للوطن ومن الوطن، وسيكون شوكة في عيون الفاسدين والإقطاعيات السياسية والقبلية والدينية، وسيحقق أولى خطوات تفكيك منظومة " التفرقة والنهب والسرقة والتجزئة"، ليحل محلها مبادئ الالتزام الوطني، والتكافؤ المبني على أسس الكفاءة، وسيضع معيراً للتفاضل بين العراقيين قوامه نزاهة اليد، ونقاء السريرة، والقدرة على التقارب مع الأخر لبناء غد عراقي أفضل، يوم اجتمعت سواعد الطائفية والقومية على تدمير ملامحه الجميلة. أن " سائرون" ليس تحالفًا انتخابياً عابراً، ولا هي لحظة رومانسية مع عذوبتها الوطنية وحلاوتها في النفس، ولكنه منهج سياسي ولد من ظروف محنة، وانطلق ليقمع منغصات الواقع، بقدرته على اجتراح حلول ومعالجات للأزمات العراقية التي أوجدتها سياسات التفرقة والعنصرية والاستئثار.
*
اضافة التعليق