بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
بعد ان صبحت على صديقي بالخير والورد، قلت له : كل صباح وأنت عراقي ..! فرد عليّ مستغرباً: وهل أنا هندي، لتتمنى لي أن أكون عراقياً ؟! قلت : أنت عراقي دون شك، لكني أدعو لك ان تظل عراقياً كل يوم، والى الأبد ..! لم يفهم صديقي أمنيتي هذه كما يبدو، فأجابني ببرود: شكراً جزيلاً..! لذلك اضطررت إلى الإتصال به لأوضح له معنى أن يكون المرء عراقياً حسب وجهة نظري، ولماذا تمنيت له أن يبقى عراقياً إلى الأبد .. فقلت له: إسمع ياصديقي لقد تمنيت أن تكون عراقياً حقيقياً ممتلئاً بحب وغرام العراق، ومخلصاً لأرض وماء وهواء العراق.. بمعنى أن تكون عراقياً صميمياً من الوريد الى الوريد، ولا أقصد عراقياً يحمل الجنسية او البطاقة الوطنية أو الجواز العراقي، فثمة فرق كبير بين هاتين (الأمنيتين) .. إن كل ما تتمناه لنفسك من أمنيات خاصة وعامة في هذا الصباح وفي كل صباح، اختصرتها لك في كلمة واحدة: هي ( عراقي).. !نعم، فحين تكون عراقياً حقيقياً صميمياً مخلصاً، تكون بالضرورة، محصناً بسور الوطنية من كل فايروسات الفساد والخيانة والجريمة والانحطاط والعمالة والذل والجبن والرذيلة بأنواعها الأخلاقية والسياسية.. كما ستكون محمياً ومنيعاً عن كل مسببات الكآبة والضغط والتوتر، والقولون العصبي وضعف المناعة، وغيرها من الأمراض المعاصرة .. فالعراقي الحقيقي لايمكن أن يكون خائناً حاشاه، ولا مجرماً قاتلاً، أو فاسداً مرتشياً، ولا يكون لاسمح الله، (حقيراً) بحقارة (سراق القرن)، أو مسخاً من المسوخ التي ابتلينا بها في مزاد العملة أو مزاد اللعنة كما يسمى. وحين تكون عراقياً صادقاً في عراقيتك سأضمن لك جنة الدنيا ورضا الضمير، وراحة البال، وطمأنينة القلب، وصفاء النفس، وستضمن لنفسك نوماً هانئاً بعيداً عن كوابيس الخوف، وصرخات وعويل المظلومين، وشبح الأيتام الذين يخطفون من أفواههم لقمة الحياة، وبعيداً عن عيون الأمهات اللائي يُسرق أبناؤهن من أحضانهن.. نعم ياصديقي ستنام سعيداً، صافي الذهن والبال، لأنك قطعاً لن تعتدي على إنسان، ولن تهضم حق فقير، أو تغتصب مالاً، أو داراً لأحد المهجرين أو المهاجرين، أو أرضاً لأحد الفقراء المستضعفين، ولن تقتلَ بمسدس كاتم، أباً ، كان ينتظره أطفاله عند باب البيت او تنتظره أمه خلف ستار النافذة .. فما دمت عراقياً حقيقياً، لن تكون قاتلاً سفاحاً أبداً، لأن العراقيين ليسوا قتلة. فيا أيها العراقي المتطلع لأنوار وأرزاق الصباح الجديد، أرجو أن تنظر الى الخلف، وتستحضر حياة أبيك، لتراه كيف كان سعيداً، هادئاً مطمئناً لأنه كان عراقياً حقيقياً.. لذا دعنا نتعظ ونعتبر من آبائنا الأصلاء، الذين كانوا غاية في الشرف والأمانة والعفة والغيرة، والوطنية والكرامة، ومن المستحيل أن تجد فيهم مرتشياً او خائناً أو عميلاً- وحاشا، أن تجد بين آبائنا فاسداً، أو منقوص المروءة. فهل جعلناهم قدوة لنا، ومثالاً عطراً نتمثل به.. إن آباءنا (العراقيين) سليلو عوائل، متجذرة عراقيتهم في عمق الأرض، ونابتة بذورها في بطن التاريخ.. وقد ولدوا وترعرعوا في كنف قيم وشمائل أصيلة، وكبروا في أحضان الكرامة وشربوا من صفاء الصدق المتدفق من ينابيع الفراتين، فكيف يخون من كان مثل هؤلاء الكرماء ؟!
إن اتساع خارطة المشاكل التي يتعرض لها المجتمع العراقي منذ سقوط نظام صدام وحتى اليوم، لاسيما وقد ازدادت فيها مفردات الفساد والرشى والتبعية والتخوين، وتدني مستوى الاخلاق، وتراجع الثقة بين المواطن والمجتمع، واضمحلال قيم المروءة لدى الكثير من الناس، وغير ذلك، يعود كله في الدرجة الأولى الى ضعف الانتماء للتراب العراقي، وغياب الهوية الوطنية، وتخلي البعض عن ثوابت اخلاقه العراقية النجيبة، فضلاً عن استمراء التبعية والعمالة وشيوع ظاهرة التسقيط السياسي في المجتمع لدى البعض، لذلك بات إيقاف مثل هذا الانحدار السريع، صعباً، ما لم نعد أولاً الى هويتنا العراقية، والاحتماء بساتر العراق العالي، والاستقواء به دون غيره، مهما كانوا ! فالعراق بلد فذ وقوي، ولخيراته أول، دون آخر .. بلد التاريخ، والجغرافية، والوطنية، ومنجم المواهب الذهبية.. أليس في أرضه ولد الجواهري والسياب والبياتي وسعدي يوسف والنواب وكاظم الحجاج، ومحمد خضير، وشمران الياسري، وفيصل لعيبي وزها حديد وفائق حسن، وجواد سليم، ومنير بشير، وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان سيد خلف وابو سرحان وشاكر السماوي، وكريم العراقي، وناظم الغزالي، ويوسف عمر، والقبانچي، وداخل حسن، وسعدي الحلي، وفؤاد سالم، وقحطان العطار، وكاظم الساهر، وسعدون جابر، وطالب القره غولي وكوكب حمزة وكمال السيد ومحسن فرحان وطالب غالي، وفاروق هلال، وطارق الشبلي، وسيتا هاگوبيان ويوسف العاني وخليل شوقي وناهدة الرماح وجواد الشكرچي وجواد الاسدي وفاضل خليل.. أليس العراق بلد عبد الكريم قاسم، وفهد، وسلام عادل، وستار خضير، وجمال الحيدري، وأحمد الوائلي، والشهيدين الصدرين، وجلال طالباني، وآلاف العظماء والشهداء .. إن التسلح بالانتماء الوطني، والتشبث بالهوية الوطنية، عامل مهم بل وعظيم في تحقيق النصر، وإنجاز المستحيل. لقد فاز الفريق الارجنتيني ببطولة كأس العالم، وهو الفريق الذي لا يملك نصف الامكانات الفنية التي تملكها فرق فرنسا، أو المانيا، أو البرازيل، أو بلجيكا، أو اسبانيا، أو حتى كرواتيا أو غيرها، لكن الفريق الأرجنتيني فاز لأنه لعب بروحه الوطنية الارجنتينية وقاتل بشراسة فتغلب على فرق كانت أكبر منه فنياً.. نعم، فقد لعب الفريق الارجنتيني وأولهم ميسي، من أجل اسم الأرجنتين فحسب، بينما لعب لاعبو الفرق الأخرى لأجل اسمائهم ومصالحهم وعقودهم.. لذلك فازت الارجنتين وخسر الآخرون. إن الوطنية كما قلت محفز عظيم في صناعة المستحيل، كما أن الوطن يستحق الفداء والتضحية، والثناء والتمجيد، وليس التنمر، والاستهزاء.. وإذا كان بعض سياسيي العراق فاسدين، فإن هذا لا يعني أن كلهم فاسدون، وأن جميع العاملين في مؤسسات العراق الحكومية لصوص وقتلة ومرتشون.. واعتقد أن في ذلك ظلماً كبيراً للعراق وشعبه ومناضليه ونزهائه. ختاماً.. يجب أن نضع العراق فوق رؤوسنا، ونباهي ونفاخر الدنيا به، ونقتدي بالجواهري الكبير الذي ركل يوماً بقدميه، قواعد اللغة، رافعاً (عين) العراق بالضمة، بدلاً من كسرها، كما يجب نحوياً، وحين سُئل عن سبب ذلك، قال: لقد عزّ عليّ أن أكسر عين العراق، فقررت أن أكسر عين القواعد..!
*
اضافة التعليق