تفجيرات الكنائس المصرية وأسئلة السياسة

 

تفجيرات الكنائس في مصر  تُثير  أكثر من سؤال، وتضع الفهم التقليدي لـ(الأمن القومي العربي) أمام التباساتٍ معقدة، فما جرى لايكشف عن هشاشةٍ أمنية، أوخرقٍ لمؤسسة الأمن المصري حسب، بل إنه يعكس توجها مريبا، ذا أبعاد سياسية وعنصرية، تدعمه دول ومؤسسات وجماعات معروفة، الغاية منها وضع المجتمع المصري المتنوع أمام أزمة التعايش المشترك من جانب، ووضع المؤسسة الأمنية المصرية في صراعٍ أهلي دموي،لاحدود له من جانبٍ آخر.

فطرائق التفجيرات الانتحارية، وتوقيتاتها ترسم تصورا محددا عن الجهة التي تقوم بمثل هذه الجرائم، وهو إجراء اعلامي له سياقاته ورسائله، الغاية منه إبعاد حركة الأخوان المسلمين المحظورة عن دورها  في هذه الجرائم الارهابية، وهو دور معروف من الصعب التغافل عنه، أو حتى تجاوز تأثير مرجعياته الطائفية والثقافية، فضلا عن كونها تأتي في سياق تشتيت الجهد الأمني الذي تقوم به القوات المسلحة في شمال سيناء، وفكِّ الحصار عن الجماعات الأرهابية في تلك المنطقة.

إنّ مايجري في مصر ليس بعيدا عن تأثير بعض السياسات العربية، عبر محاولة إعادة إنتاج تموضعات للصراع الاقليمي، ووضع مصر أمام خيارات صعبة، بين لعبة انهاكها الأمني، وسياسة التجويع، مقابل العمل على اخضاعها للأجندات الاقليمية والدولية وتوريطها في حروبها القذرة. ولعل مُخرجات مؤتمر القمة العربي الأخير في عمّان أشارت الى بعض هذا المسار، والقائم على ايجاد نوعٍ من التحشيد العربي، إزاء مايسمى بالتهديدات الأمنية الايرانية في المنطقة، وجرّ جميع الدول الى بيئة هذا التحشيد الأمني والسياسي والطائفي والاعلامي.

 

 

مصر وديموغرافيا التنوع

من الصعب جدا وضع دولة مهمة مثل مصر خارج السياق، والعمل على تهميش دورها التاريخي، لكن معطيات السياسة الاقليمية لها خيارات أخرى، أولها العمل على تحييد هذا الدور عن عديد من الملفات في المنطقة، ومنها الملف السوري والليبي واليمني، وثانيها العمل على إضعافها الاقتصادي والسياسي، وثالثها التشويش على ملفاتها الأمنية الداخلية، وبالتالي دفعها لفرض اجراءات تشوّه صورتها السياسية والأمنية، مثل تشكيل مجلس اعلى لمكافحة الارهاب، الذي سيضم جهات أمنية وسياسية ودينية، وهو مايعني خلق أزمة للحكومة مع مؤسسة الأزهر، وبعض المؤسسات الأمنية التقليدية، فضلا عن قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باعلان حالة الطوارئ في البلد.

إنّ طبيعة الديموغرافيا المصرية تقوم على أساس وجود علاقات عميقة، ثقافية ودينية وتجارية بين المسلمين والأقباط، والتي ظلت نموذجا طوال قرون، رغم كل التحولات السياسية والأمنية التي عاشت مواجهاتها مصر، وأنّ مثل هذه التفجيرات الارهابية- المدعومة عربيا واقليميا- لا تقوم إلّا على أهداف معروفة، بدءا من السعى  لتفكيك هذه التعايش، وانهاء صورة (مصر الكبرى) في اللاوعي الجمعي العربي، وانتهاءً بصياغة فهمٍ مفارق لصورة العدو، هذا الذي غابت أو غُيبّت عنا صورته الحقيقية.

 العلاقات بين المسلمين والأقباط لها مرجعيات تاريخية، وأنّ تأزيم هذه العلاقات، أو وضعها في سياق الكراهية والتخندق، سيكون مدخلا لجعل المجتمع المصري يعيش واقعا مضطربا، وقابلا للانخراط في وقائع صعبة، وضاغطة، التي ستفرض وجود مواقف وخيارات أكثر تعقيدا، والتي تنطلق في جوهرها من خلق مآزقٍ ستراتيجية للحكومة، ولمؤسساتها الأمنية، وصولا الى فقدان الثقة بها وباجراءاتها، وهو مايعني استدعاء جملة من الإجراءات، على المستوى السياسي، من خلال ترتيب ملفات هذه السياسة عربيا واقليميا وعدم التورط في أزمات مصطنعة، أو على مستوى المصالح وحساسياتها، ودفع مصر الى أزمات اقليمية، لاسيما مع اثيوبيا والسودان، من خلال فتح مشكلات سد النهضة، أو مشاكل الحدود مع السودان، فضلا عن ماتُمثّله هذه الاجراءات الأمنية من تداعيات، ستنعكس سلبا على كاهل الموازنة المصرية، والتي تعاني- أصلا- من عجزٍ فاحش، ومن أزمات تُزيد من الاعباء الاقتصادية، وعلى قدرة الحكومة في معالجتها، وفي تأمين مصادر اضافية لتمويل المشاريع الكبرى، ومعالجة أزمات التنمية والاستثمار وتنظيم السياسات المصرفية، وهو ما بات أكثر خطورة في تهديد البيئة المصرية الديموغرافية، ووضعها  أمام أفقٍ مغلق، وهو ما سيقودها الى اصطناع صراعات داخلية، أو لتحويل الورقة القبطية مصدرا لإضعاف الدولة المصرية، وإخراجها من ساحة المواجهة الاقليمية، أو حتى اجباراها على الخضوع والموافقة على سياسات، باتت معروفة في المنطقة، ومنها اعادة جزيرتي صنافير وتيران الى السعودية، ودفع مصر للانخراط في لعبة الحروب الاقليمية في سوريا واليمن بشكل خاص.

علق هنا