أغنيات سعدي الحلي دواءٌ لأوجاع الغربة

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

سألني أحد الأصدقاء المتابعين لمقالاتي، عن (مادة) مقالي ليوم غد؟

فقلت له: سيكون المقال عن سعدي الحلي !!

فقال مستغرباً: عن من ؟!

قلت: عن المطرب الكبير سعدي الحلي !!

فقال: ما الذي يجعلك تكتب مقالة (افتتاحية) عن سعدي الحلي ؟!

قلت: وما الذي يمنعني عن كتابة مقالة عنه؟!

قال: لأنه (مطرب شعبي)، ومكانه إن أردت الكتابة عنه في مكان آخر، وليس في افتتاحية الجريدة ..

 قلت له: لكنني كتبت من قبل افتتاحيات عديدة عن مطربين شعبيين مثل المطرب سلمان المنكوب والمطرب كريم منصور، وغيرهما الكثير، فلماذا لم تعترض عليهم وقتها؟!

لم يجب صديقي، لكنني أكملت حديثي قائلاً: أعتقد أن هناك اشكالية كبيرة لدى بعض المتلقين تتعلق بفهم مصطلح، أو كلمة (الشعبي)، وهذه الإشكالية ناتجة برأيي عن (قصور) في الوعي، أو عن نظرة متعالية نحو النتاج (الشعبي) برمته.. إذ ما أن يسمع أحدهم كلمة (الشعبي)، حتى يتبادر إلى ذهنه أنه أمام منتج بسيط  ومتخلف حتى .. وقد وجدت هذا الفهم الخاطئ أيضاً لدى بعض المتعلمين والمثقفين للأسف، حيث ينظر بعضهم للشاعر الشعبي على سبيل المثال، نظرة فوقية متعالية، فهذا المتعلم أو المثقف لم ينبهر بقصيدة مظفر النواب، ولا بدوره الثقافي والريادي الكبير، إلا بعد أن كتب شعراً بالفصحى، وبعد أن صفق له العرب وأعجبوا به.. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الشاعر الراحل كريم العراقي، فالجمهور لم يمنح كريم ذلك الموقع الشعري المتقدم الذي يستحقه إلا بعد أن كتب نصوصه بالفصحى، أو بتلك اللغة القريبة من المزاج العربي، بينما نجد أن كريم العراقي كان قد كتب أحلى الأغاني بالشعبية..  ولا أظن أن القارئ بحاجة لأن أذكره بالنتاج الفذ الذي تركه لنا كريم باللهجة العراقية، كأغنية (من الأول يا حبيبي عرفتك مو الي .. واعرفت الزمن يندار، وتصير وياه عليّ .. )، هذا النص الرائع الذي كتبه كريم في ثمانينيات القرن الماضي ولحنه الموسيقار بليغ حمدي (أكرر بليغ حمدي) وأداه الفنان سعدون جابر .. وأمامنا أيضاً مثال آخر يتجسد في الفنان كاظم الساهر، وادعوك صديقي أن تكون محايداً وتقارن بين نظرتنا القديمة تجاه منجز كاظم الشعبي، حين كان يغني (الحية وعبرت الشط وسلمتك بيد الله)، وبين نظرتنا المنبهرة له اليوم وهو يغني بالفصحى (مدرسة الحب، وقولي أحبك) وغيرهما، مع أن كاظم-وهذا رأي الأغلبية- كان (أحلى) وأقرب إلى نفوسنا وأفئدتنا .. إنها  (عقدة الخواجة) حتماً ..!

 ومختصر الكلام.. إن سعدي الحلي هو أكثر الأصوات الغنائية العراقية تأثيراً في الوجدان الشعبي ولصوته نفوذ عاطفي يمضي سحره إلى القلب مباشرة دون استئذان.. والذي قال عنه الشاعر الكبير موفق محمد احلى قصيدة .. مطلعها: 

( أيها الحلي المخبوز في تنانير سومر وأكد) .. الخ .. أما أنا، فسأعترف أمامك الآن وأقول بصدق، إن لأغنيات ومواويل سعدي الحلي وداخل حسن وكريم منصور، دوراً كبيراً في علاجي وشفائي التام من أمراض الكآبة والاغتراب والوحدة، و (الهوم سك) وكل أوجاع الغربة اللعينة التي كنت أعاني منها منذ خمسة وعشرين عاماً، حين وطأت قدماي أرض الولايات المتحدة أول مرة.

وقد لا تصدق كلامي هذا، لعدم منطقيته علمياً ربما، لكنه منطقي تماماً حين تنظر اليه إنسانياً، وروحياً..

لقد كنت في سنوات غربتي الأولى أضع شريط أغنيات سعدي الحلي في المسجل، وأسمعه بكل حواسي وجوارحي، فأحلق مع صوته، وأذهب بخيالي بعيداً وعالياً، إلى حيث الوطن والناس.. حتى شفيت من كل فايروسات الغربة وتبعاتها دون أن أذهب لعيادة، أو أراجع طبيباً، إنما عالجت نفسي بالغناء العراقي والسيجارة والكاس، كما يقول الشاعر كاظم إسماعيل الگاطع : "

گضيت الليل اتسله باثنين .. مرة بالجكارة .. ومرة بالكاس .." ! لقد كان صوت سعدي الحلي جسراً (عاطفياً) ينقلني من ديترويت - حيث أقمت أول الأمر - إلى (قطاعات) القلب في مدينة الحب، مدينة الثورة، فأصبّح وأمسّي على أهلي وأصحابي .. وحين يتجلى سعدي وهو ينادي بكل ما في القلب من أسى وشوق قائلاً: ( إجيتك من بعد غربة .. أجيت بليلة گمرية.. هذاك آنه نبع صافي، يخايب دغش ما بيه.. إجيت أنگل عتب بالعين .. عتب عاشگ بحنيه.. ) أجيبه بالدمع والغناء، مردداً معه : (واگلك هجرك أشسوه .. لون أدري فلا أهوه، لون أدري فلا أهوه)..

نعم، فقد كانت كلمات هذه الأغنية التي كتبها الشاعر الكبير ناظم السماوي، وأغنية (ليلة ويوم) التي كتبها الشاعر الراحل كاظم الرويعي، واللتان لحنهما الملحن المدهش محمد نوشي، أفضل وسيلتين روحيتين من وسائل اتصالي بوطني البعيد جداً، وكانا أيضاً سببين من أروع أسباب شفائي من أوجاع الغربة.. 

قاطعني صديقي قائلاً : إذا كنت تسمع سعدي الحلي في غربتك، هل تريدنا أن نغترب مثلك حتى نسمعه، أو ربما تظن أن العراقيين جميعاً مغتربون مثلك؟!

قلت: نعم العراقيون مغتربون بالضرورة، فهم جميعاً يعيشون حالات الاغتراب والكآبة والخوف من المجهول بل والخوف حتى من فرح اللحظة.. لذلك تجد العراقي يتوسل بربه حين (يضحك)، خوفاً مما سيحصل له بعد هذه الضحكة قائلاً: (اللهم اجعله ضحك خير)!..

والعراقي مغترب في وطنه وفي غربته، وهل يمكن لنا نسيان ويلات الحروب والدم والرعب والقمع الصدامي، والحصارات الغربية المدمرة، والفقر والجوع وما رآه العراقيون من مآس في فترة الفتنة الطائفية، أو ما تعرضوا له بعدها على يد داعش، وما قدمه لهم (أشقاؤهم الجهاديون  العرب)، من هدايا (مفخخة)، ناهيك من ما مر على العراقيين من تدمير، وحفر دام، وقاس في تلابيب الروح والوجدان والعقل.. ولم ينته هذا الدمار من حياة العراقيين حتى اللحظة، حيث استفحل عليهم أبطال (سرقة القرن)، ويستفحل عليهم أيضاً زملاء سراق القرن، الذين ينتشرون اليوم في جميع مؤسسات الدولة، كما ينتشر وباء (الطاعون) .. 

إذاً، هل يمكن للعراقيين بعدها، تجاوز جحيم هذا الإرث القهري بسهولة؟

طبعاً لا.. وألف لا ..!

وعليه فإن العراقيين اليوم بحاجة لعلاجات نفسية، ولمشاف روحية، وسيكون الغناء والموسيقى احد أهم وسائل العلاج والتعافي من آثار هذا الكابوس الأسود الذي دام أكثر من خمسين عاماً دون توقف.. وليس مهماً أن نتعالج بأغنيات سعدي الحلي، أو أغنيات عبد الحليم حافظ، أو عبر موسيقى بتهوفن، أو چايكوفسكي، المهم أن تجد ما تراه مناسباً لك، ومفيداً لوضعك النفسي، فيكون علاجاً ناجعاً لك .. أما أنا فقد اخترت علاجي وشفيت به تماماً .. أقول هذا الكلام بحق أبي خالد، رغم أني كنت (زعلان) عليه، بل وكتبت أيضاً مقالاً ضده في مطلع التسعينيات بعنوان : ما هكذا تورد ياسعدي الإبل، وسبب زعلي أن أبا خالد سجل اغنيتين من كلماتي دون موافقتي، والأغنيتان هما (مآني نادم وبهيده).. لكننا تصالحنا بعد ما تدخل ولده الراحل خالد.. الذي كان صديقي جداً، وبعد سهرة ممتعة، دعوت فيها سبعة من اصدقائي، واغلبهم من الفنانين الشباب -آنذاك - دفع تكاليفها الباهظة أبو خالد - المعروف ببخله - وقد انتهى زعلي معه، لكن المفارقة أن أبا خالد همس بأذن ولده بصوت عال، قائلاً: والله ياخالد، لو باقي صاحبك زعلان عليّ هوايه أحسن، ولا أدفع هذا المبلغ الكبير ..!

 

المطرب الكبير سعدي الحلي

علق هنا