مرة ثالثة: (الجوع كافر) يا دولة الرئيس .. !

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

كنت قد نشرت هذا المقال في عهد الكاظمي مرتين.. المرة الاولى في افتتاحية جريدة الحقيقة يوم ٢ / ٦ / ٢٠٢١،  ولما لم اجد تغييراً في خارطة البؤس والفقر، أعدت نشره مرة ثانية بعد سنة وتحديداً في ٥/ ٦ / ٢٠٢٢ .

واليوم وبعد سنة أيضاً - وحيث لم تزل حاويات القمامة تستقبل اطفالنا على موائدها (الكريمة) خلف السدة، أعيد نشر المقال في عهد محمد شياع السوداني أيضاً، وقد يقول البعض ان الرئيس السوداني (جاي يشتغل زين)، وأنا أقول نعم إن (الرجل جاي يشتغل زين فعلاً، ولا خلاف على ذلك) لكن القضية لا تتعلق بالسوداني شخصياً، إنما تتعلق بمنظومة الحكم منذ ٢٠٠٣، حتى هذه الساعة.. بل وقبل ٢٠٠٣ أيضاً، لأن الفقر قد دخل بيوت العراقيين من أبواب الحروب العبثية، ونوافذ السياسات الرعناء للنظام السابق، حتى يمكن اعتبار الفقر أحد (منجزات) حكم صدام حسين، لا سيما بعد غزوه الكويت، وفرض العقوبات الدولية على العراق، ولاشك أننا نتذكر كيف ان العراقيين عاشوا ذلك الزمن الأسود.

وذاقوا مرارته القاسية.. وحين سقط صدام، وجاءت طغم المحاصصة الفاسدة، زادت الفقر فقراً، بحيث وصل الحال الى أن يبحث فلذات أكبادنا عن كسرة خبز في فضلات القمامة ! والبركة طبعاً في حسابات (سراق القرن) .. لذا فإني حين أتوجه بندائي هذا الى السوداني، إنما لأنه الرجل رقم واحد في الدولة العراقية، وله توجه النداءات، والاسئلة.. ولو كان ثمة شخص غيره في المنصب، لتوجهت اليه أيضاً بنفس النداء..

إذاً فالموضوع لا يتعلق باشخاص، إنما يتعلق بمصيبة وطنية وانسانية واخلاقية يتوجب معالجتها من قبل (الكبير) قبل فوات الاوان .. لذلك قمت بنشر مقالي هذا مرتين في زمن الكاظمي، رغم علاقة الصداقة التي كانت بيننا، وأنشره اليوم وغداً وبعد غد.. وتأسيساً على ذلك، أطرح السؤال الاتي: هل توقفت حاويات القمامة وأكياس (الزبالة) في حي طارق والمناطق الفقيرة، المعدمة، خلف السدة -وأمام السدة- من تقديم (وجبات الطعام) لأبناء بلاد النفط والنهرين، أم مازالت مزدحمة بالجياع؟

انا شخصياً أعرف الجواب ولديّ فيديو يؤكد ذلك، وطبعاً فأني لا أنوي نشر الفيديو مع هذا المقال، احتراماً لكرامة العراقيين، وتقديراً لمشاعرهم أيضاً، لكني مستعد لارساله الى كل من يشكك بما اقول..!

وعودة لأصل الموضوع، فأنا أظن بأني سأعيد نشر مقال (الجوع كافر يادولة الرئيس) مرة رابعة وربما خامسة وعاشرة، ولن يهمني من سيكون غداً رئيساً للوزراء، لكن الذي يهمني جداً، أني لن اتوقف عن نشره إلا في واحدة من حالتين: اما موتي، أو أن يردم مستنقع الجوع والفقر والعوز، والغاء (موائد القمامة) التي يعتاش منها وعليها الكثير من أطفالنا اليوم، بعد أن تقوم دولة النفط بتوفير رغيف خبز نظيف لهم ولآبائهم وامهاتهم النجباء الذين فضلوا كسرة الخبز (الشريفة)، رغم اتساخها بقاذورات المزابل، على رغيف خبز (أبيض) مخلوط بعسل السحت الحرام… ! 

وها أنا اليوم أضع مقالي أمام الرئيس السوداني، وهو نفس المقال الذي نشرته مرتين دون ان أغير شيئاً منه، سوى تبديل اسم الكاظمي باسم السيد السوداني .. ولي امل كبير أن يلتفت ابن العمارة الغيور الى أبناء جلدته المعدمين، ويجد حلولاً كريمة لمعيشتهم..

اليكم مقال : الجوع كافر يادولة الرئيس …!

 

لن أتحدث عن النفط العراقي وملياراته التي سُرق بعضها على يد الشركات البريطانية أيام نوري السعيد، وبعضها على يد صدام حسين وعائلته، وأخيراً سرق ( كله ) من قبل أباطرة الفساد السياسي والإداري من الذين جاؤوا بعد سقوط نظام البعث الصدامي ..!

كما لن أتحدث مقارنة، عن ما صنعته وشيدته الدول المجاورة من تجارب فخمة في البناء والاعمار والاقتصاد، رغم أن هذه الدول مثل الإمارات وقطر لا تملك ربع ما يملكه العراق من موارد نفطية وغازية !

ولن أتحدث عن مملكة الأردن التي لا تملك عشر موارد العراق، بل هي لا تملك من الموارد أصلاً، فضلاً عن افتقادها للمياه والارض الخصبة والمناخ الزراعي الملائم، بمعنى أنها بلا نفط ولا زراعة ولا صناعة ولا هم يحزنون !

لكن الأردن والإمارات وقطر، والسعودية التي تملك نفطاً يقارب حجم النفط العراقي، وكذلك البلدان الأخرى المقاربة للعراق، أو ربما الأقل منه اقتصاداً، وأقولها بألم وحسرة، إن هذه الدول تملك ما لا يملكه العراق.. وأقصد به، القيادات النزيهة القادرة على توظيف هذه الموارد في خدمة الوطن والمواطن معاً.. لذلك تجد مواطنيها يتناولون رغيفاً نظيفاً مشبعاً بغموس الكرامة، دون الحاجة للبحث عنه في حاويات القمامة !

وكي أكون واضحاً، فإن النوع السيء من القيادات العراقية يشمل أغلب القادة السياسيين العراقيين في العهد الملكي والعهد البعثي والعهد الذي تلاه، أي عهد " الجماعة )!

فمثلاً، نوري السعيد باشا، الذي يتباكى على عهده البعض، وضع النفط العراقي برمته في يد الشركات البريطانية، وتحت سلطة نفوذها السياسي والمالي، فكانت مقاليد الحكم في البلاد بيد هذه الشركات ..

وحين جاءت ثورة الرابع عشر من تموز التحررية العام 1958 بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، تحرر النفط العراقي، والدولة العراقية من قبضة بريطانيا، لذلك قامت الشركات البريطانية والمخابرات الأمريكية ومعها الرجعية العربية والفارسية، وزعماء القومية العربية وعملاؤهم في المنطقة بتدبير انقلاب دموي ضد حكم قاسم!، فتخلصوا الى الأبد من الزعيم الذي حفظ موارد العراق وكرامة المواطن، ولم يضع فلساً واحداً في غير مواقع البناء والاعمار والتصنيع والتنمية.

وللحق، فإن الرئيس عبد الرحمن عارف لم يكن أقل من الشهيد عبد الكريم قاسم، نزاهة ووطنية، لكن الرجل كان ضعيفاً للأسف، فلم يتمكن من تحقيق المنجزات التي حققها الزعيم قاسم.

ولما جاء صدام حسين الى الحكم، توسعت وتضخمت موارد النفط العراقي بشكل كبير جداً، لكن صدام أضاعها على عمليات تصنيع فاشلة كصواريخ الحسين والعباس، وعدنان واحد وعدنان اثنين، وغير ذلك من المهازل التي دفع العراق بعد ذلك عشرات الملايين من الدولارات ثمناً لتفجيرها والخلاص منها، وهكذا أضاع صدام حسين موارد العراق العظيمة على الحروب، وانشطة المخابرات، ودعم عصابات ( أبو نضال) ومجاهدي خلق، وغيرهم من المنظمات والعصابات الارهابية، فضلاً عن مليارات الدولارات التي ضاعت في بنوك الاردن وسويسرا ولندن وغيرها من المصارف العالمية، بعد مقتل حسين كامل وعدي وقصي وبقية افراد الأسرة، وضياع أرقام ( الكود) لحسابات الأرصدة العراقية السرية الهائلة، اللهم إلّا ما عثر عليه من مال مبعثراً هنا وهناك، وما لطشته رغد ابنة صدام من أموال وارقام تحتفظ بها لنفسها، وما خرج مهرباً من قبل عوائل قادة البعث !

كل هذا بـ( كوم ) وما حصل بعد سقوط عصابة صدام بـ (كوم) آخر- كما يقول الأخوة المصريون - وأقصد به تقاسم الجماعة الذين جاؤوا للحكم بعد 2003 - كرؤساء ووزراء ومديرين عامين وسفراء وقضاة ورجال اعمال، واصحاب بنوك، وهيئات اقتصادية حزبية، وقادة في الجيش والشرطة والاستخبارات، ورجال دين، ورؤساء اتحادات رياضية ومنظمات مجتمع مدني ورؤساء نقابات مهنية، واصحاب قنوات فضائية، ووسطاء وسماسرة، وغيرهم من اللصوص .. نعم، فبعض هؤلاء - إلا النزر اليسير - قد تقاسموا مالية العراق الفخمة، بحيث بات القضاء العراقي اليوم بحاجة الى اصدار اكثر من خمسين الف مذكرة قبض ليتمكن من توقيف (بعض) وليس كل اللصوص والمرتشين والفاسدين في الدولة !

ونتيجة لهذا الفساد الفظيع، أصبحت - ولأول مرة في تاريخ العراق، أي منذ حكم نوري السعيد حتى اليوم،  الاف العوائل العراقية العفيفة والشريفة، تبحث عن قوتها في حاويات القمامة، وهو أمر لم يحصل من قبل قط حتى في زمن المقبور صدام !

وهنا يحاصرني سؤال (خشن) مفاده:

كيف يتدبر المواطن العراقي الشريف رغيف الخبز له ولعائلته، إذا كان عاطلاً عن العمل -طبعاً هو عاطل بمزاج الحكومة وليس بمزاجه ورغبته -؟!

وليس أمامه هنا غير تنفيذ وصية شيخ الثوار أبي ذر الغفاري حين قال متذمراً:

" عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه"! ولكن، كيف يشهر هذا الجائع سيفه، وهو بلا سيف أصلاً، ثم على من يشهر سيفه، والأوراق مختلطة بشكل عجيب، ناهيك من أن كواتم الصوت وبنادق القتلة تتربصه وتغتاله، وهو أعزل سواء في ساحة التظاهر، أو أمام بيته، ولا يملك غير صوته يشهره، باتجاه من يسرق قوته وقوت اطفاله..

لذا فإني أعلن تضامني مع آباء الأطفال الذين يعتاشون اليوم على حاويات القمامة في كل مدن العراق، أو في مزابل العراق لا فرق ..!

واساند منفذي وصية أبي ذر الغفاري، ولكن قبلها اطالب الرئيس (السوداني) شخصياً، وليست حكومته، فحكومته - أي حكومة الكاظمي كما نشر في المقال وقتها - بما فيها من بعض الوزراء الذين يمتلكون ملفات فساد فخمة في هيئات النزاهة والقضاء، هم لصوص وجزء من المشكلة مثلهم مثل الحكومات السابقة .. ولا أظن أن هناك حاجة الى أن أُذكّر (السوداني) بأغنية أو  (صرخة) الفنان الشيوعي زياد الرحباني :

الجوع كافر.. الجوع كافر !

أو أن أُذكّره بما قاله العظيم علي بن أبي طالب "لاخير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها ..!

اطفالنا يتناولون (غدائهم) من المزابل

علق هنا