لكم الحقائب والمناصب وفضائح (القرن) .. ولنا الحب والضوء والمطر

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة

فالح حسون الدراجي

نتابع جميعاً ما يحدث هذه الأيام في الساحة السياسية، من عراك واشتباك، وتدافع بالمناكب، وتراشق بالاتهامات ، وتسقيط سياسي واخلاقي، وصل بعضه حد الشقاق بين الرفاق، والخناق بين الأشقاء، والقتال بين شركاء العقيدة والدم والسلاح والمصير الواحد، ومن بعيد، نسمع خلف الأبواب السياسية أخباراً واتفاقات وتعهدات وصفقات، ولغة عجيبة هجينة، لغة لم يخطر في بالنا يوماً، أنا سنسمعها، لغرابتها، وبعدها عن قيم واخلاق وحياء العراقيين، لقد سمعنا (أموراً) يستحيل وقوعها او حدوثها في العراق حتى بعد ألف سنة ضوئية.

لكن ( الجماعة ) حرقوا المراحل كما يبدو، وطووا المسافات بسرعة مستحيلة، فضربوا بذلك رقماً قياسياً في تحقيق الذي لا يتحقق.

 يبدو أن كل شيء في العراق بات ممكناً، وكل ما كان سماعه محالاً من قبل، أصبح سماعه طبيعياً هذه الأيام، وقاموس السياسة العراقية أمسى خالياً من مفهوم (العيب)!

والمؤلم في الامر أن هذا التنافس المدجج بالقسوة وبكل أسلحة الجشع والاستئثار، لا يدور بين خصوم، أو أعداء، إنما بين أشقاء ورفقاء!

 ولعل الأكثر ألماً أن هذا التنافس أو (التقاتل) لم يأت من اجل الحفاظ على استقلال العراق، أو كرامة الوطن التي تهان كل يوم  من قبل هذا الجار المتعجرف، أو ذاك الجار المغرور، كما أن هذا التسابق لا يحصل من أجل كشف السرقات الفلكية التي يتعرض لها الشعب العراقي على أيدي الحاكمين، وهي سرقات لا تعد ولا تحصى، ولا من أجل استرداد الاموال المنهوبة، خصوصاً ما سرق منا في كارثة هيئة الضرائب، كما أنهم لا يتعاركون تنافساً على تأمين الحفاظ على حياة وسلامة العراقيين، إنما هذا القتال يأتي من اجل (تأمين) الوزارات السيادية لأحزابهم، و(توفير) أكبر عدد من المناصب الدسمة لأتباعهم.

فهذا السيد المعمم يطالب بوزارة النفط، وإلا فلا ! 

فيجيبه أحدهم من بعيد : (سيدنا صارلك 12 سنة تغرف بكرك وچمچة من هاي الوزارة، خلينه احنه هم ناخذ وياك چم چمچة،خو مو كلها الكم)؟

وفي جانب آخر من مشهد التطاحن حول حصص الكتل من الكعكة، يظهر  (الحجي) مصراً على استيزار أحد مقربيه لوزارة الداخلية، فيعترض (الكبير) على هذا الترشيح، قائلاً له: "حجي الله يخليك، هذا مرشحك ما يگدر يدير مركز شرطة  أبو صخير، شلون راح يدير وزارة الداخلية"؟!

لكن الحجي يرفض هذا الكلام، ويثور (ويزعل) ويهدد بالانسحاب والاصطفاف مع (الحنانة)! . فلانة تريد وزارة الصحة (غصباً ع اليرضه والمايرضه).. وفلان يريد وزارة النقل، وإلا، فـ( بيني وبينكم حد الله)!

اما علّان العلاني، فهو مصرٌّ على وزارة الكهرباء، وإلا ( يشخبط الإملاء)!

 أما (حرامي الهوش) فهو متمسك بوزارة الدفاع كما يتمسك الأعمى بشباك الكاظم، ولا يقبل بغيرها، (والله وحده من يعلم) ماذا ستكون حالة الجنود، لو أصبحت وزارة الدفاع في يد هذا (الزعيم)؟ 

أما الأخوة الكرد، فهم يريدون وزارة الخارجية، لأنها مسجلة في دائرة العقاري - ملك صرف - لأبي مسرور.

ولا تعتقدوا أن البقية بعيدون عن حلبة الاشتباك هذه، فالجميع يسن أسنانه ليأكل الآخر..  وأكثرهم يقاتل بيديه ورجليه من أجل الفوز بأكبر قدر ممكن من الغلة، وليذهب أطفال العراق الى الجحيم، أو الى حاويات القمامة لتناول طعامهم !.

أنا شخصياً أعتب على من يستحق العتب، - وهم طبعاً كثيرون- ولا أعتب على من فقد هذا الاستحقاق، وأقول له:

 لمَ كل هذا الاستقتال، أمِن أجل المال؟، ولمن تجمعون هذه الأموال، وبين أصغركم، والمنية المحتومة خطوة واحدة!، فهل تظنون انكم ستحملون أموالكم بأيديكم الى قبوركم، وحتى لو مضت هذه الأموال معكم الى القبور فهل ستنفعكم في زمن آخر ربما، كما كان الفراعنة يظنون؟

أعرف وزير نفط سابقاً، رجلاً عجوزاً طاعناً في الشيخوخة، قدماه تقتربان من حافة القبر، يتنقل ومعه صيدلية متنقلة للأدوية، هرع الى بغداد على أول طائرة، تاركاً اقامته في الأردن طمعاً بمنصب، فتراه هذه الأيام يقضي ساعات يومه متنقلاً من مقر هذا (الحجي) الى بيت ذلك (الشيخ)، ومن فيلّا هذا (السيد)، الى استراحة هذا (الاستاذ)، متوسلاً متخضعاً، عارضاً خدماته ووعوده، على الرغم من أن ملايين الرجل تزدحم في بنوگ عمان وسدني ودبي!

وغير هذا العجوز المستقتل، ثمة العشرات مثله، وكلهم يحاول الحصول على منصب في الحكومة الجديدة، وبأي ثمن - أكرر بأي ثمن - !

والسؤال: لماذا كل هذا، لماذا هذه المهانة وهذا الاستجداء المذل، وقبل ذلك أقول: لماذا يتقاتل هؤلاء الأشقاء والرفقاء؟!

لماذا أيها السياسيون المستقتلون والمتقاتلون على المناصب لماذا، أمن أجل تكديس الثروة تلاً فوق تل، بينما شعبكم يقهره الجوع والعوز، ويذبحه المرض؟!

فيا للعار، ويا للخجل ويا للسخرية، ويا للكارثة!!

إذن، خذوا المناصب كلها، وخذوا الحقائب والعقود والصفقات، وفضائح القرن، ولعنة التاريخ

أما نحن الفقراء، الشعب، الناس الطيبين القانعين، تكفينا هذه الطمأنينة التي تسكن نفوسنا كل صباح، ويغنينا هذا السلام الذي يورق على ضفاف أفئدتنا حين نضع رؤوسنا على وسادات الليل..

اجل، نحن الفقراء، الذين لا ينافسون السيد على وزارة النفط، ولا يبارزون الحجي على وزارة الداخلية، ولا يبارون الحجية على وزارة الصحة، ولا يقاتلون حرامي الهوش على وزارة الدفاع، لاننا في غنىً عن مناصب لا نفكر فيها قط، ومواقع لا تخطر على بالنا حتى في الأحلام.

تعاركوا على المناصب ، فما لنا ومناصبكم، وأموالكم، ووزاراتكم، ونحن الذين لدينا القصائد والموسيقى والحب والجمال والدهشة والمطر وصباحات فيروز.

خذوها كلها من اول (الخضراء) حتى آخر الصفراء، فنحن لنا زرقة السماء، واحتفال النجوم عند قدوم القمر في ليالي الربيع.. وزقزقة العصافير في مواسم الهجرة الى الشمال، وخرير السواقي عند اطراف البساتين، وحفيف الأشجار في جميع الأزمان والأوقات، ولعل أثمن ما في كنز رصيدنا، هو راحة الضمير، الذي لن ينقص منه (درهم واحد) مهما طال العمر واتسعت مصروفات الزمان!

نحن الذين قال المتنبي نيابة عن كل واحد منا :

 " أنام ملء جفوني عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصم"!

 إن سعادتنا لا تحتاج للمناصب الحكومية، وحياتنا في غنى عن الحقائب السيادية، وحتماً أن احترام الناس لنا، ومحبتهم لبعضهم، هي أكبر من كنوز قارون، وأموال هارون مجتمعةً.. 

فهنيئاً لكم المناصب والرشى والصفقات وفضائح القرن، وهنيئاً لنا نعمة الحب، وراحة البال، وسلام الله، ورضا التاريخ.. 

لكم وزارة النفط وغيرها، ولنا الورد والضوء وروعة المطر..

علق هنا