حَلّاق بيكاسو.. وحَلّاق جواد سليم.. !

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

يقول الفيلسوف ديكارت: (أنا أفكر .. إذن أنا موجود)

وانطلاقاً من هذه الحقيقة الوجودية، أمنح لنفسي الحق وأقول: (أنا أتذكر.. إذن أنا موجود).. يؤيدني في ذلك الكاتب المغربي -الفرنسي- الطاهر  بن جلون، حين قال على لسان البطل في رواية (تلك العتمة الباهرة): 

-أنا لا أتذكر فقط، إنما أتعلم التذكر أيضاً كل يوم-.

إذن، فالتذكر مهم جداً، ولكن ماذا نتذكر؟

أنا شخصياً أسعى بكل قوتي الى أن أتذكر أني (إنسان)، وأن لا أنسى إنسانيتي في كل الظروف!

وحين يمتلك الإنسان إنسانيته ويعي قيمته كإنسان، لن يكون قاتلاً مجرماً، ولا فاسداً مرتشياً أو سارقاً، أو خائناً لوطنه، أو لضميرة، فالإنسانية منظومة قوية تمنح الإنسان مناعة وحصانة وطنية وأخلاقية وجمالية، بل وحتى دينية أيضاً. 

حتى عندما أكتب، فإني أسعى دائماً عبر الكتابة إلى أن أذكّر نفسي بأني إنسان، أنتمي لهذا الكون البشري الواسع، واتقاسم معه سلامه وحربه وفنه، وجماله، وفيضاناته، وحتى (كوفيده)، كما أنعم بنعمة ابتكاراته واختراعاته العلمية الفذة، فالإنسان حين يتذكر دائماً انه إنسان، ويعي بأنه حائز على شهادة الإنسانية، لن يكون قطعاً في الصف المعادي للحياة والجمال والحب، وإلا فإن ثمة خللاً حدث في قوانين التاريخ.

إن (الإنساني) بالضرورة هو وطني، وهو بالحتمية الاخلاقية سيكون نزيهاً وصالحاً جداً لا مناص.. 

لقد سِقتُ هذه المقدمة لأحكي قصة أثارت اعجابي جداً، واردت أن أنقلها هنا لكي نعرف من خلالها كم سيكون الانسان عظيماً حين يكون إنساناً.

الحكاية أرسلها لي أمس الصديق والشاعر الجميل محمد الشرقي، تتحدث عن (حلاق بيكاسو).

لقد أثارت هذه الحكاية تعاطفي واعجابي وغريزتي الصحفية المبنية على أسس السؤال، وعدم التسليم باليقين المطلق في أي معلومة تاريخية.

لذا فإن فضولي الصحفي، دفعني الى أن أتابع قصة (حلاق بيكاسو)، وأمضي معها حتى الأخير، لما فيها من معنى، وقيم، وتشويق، باحثاً أيضاً في مواقع أخرى عن ما يعزز مصداقيتها، رغم ثقتي القاطعة بصديقي الشاعر الشرقي، فكانت النتيجة مفاجأة لي، حين عرفت أن هذا الحلاق الاسباني واسمه (أوخينو آرياس) قد عاش لاكثر من قرن، وكان مناضلاً شيوعياً بل وأحد قادة المقاومة الاسبانية.. 

ولد في قرية (بويتراغو ) شمال مدريد في أسبانيا عام 1905 لأب خياط، وأم راعية غنم، فترك الدراسة بسبب الفقر وهو في العاشرة من عمره، ليتعلم صنعة الحلاقة في محل عمه، ويتعلم معها الحياة أيضاً، خاصة وأن محل عمه كان يضم مكتبة كبيرة، مما اتيح له أن يقرأ كتب (فكتور هيجو) وغيره من الروائيين الكبار آنذاك.

ويقرأ كتب الفلسفة والمسرح والاقتصاد والنقد الفني قبل أن يتوفى عمه ويرثه محل الحلاقة مع كامل المكتبة، وروادها وهو في عمر صغير.

قرأ كتب اليسار، وتحمس له، فدفعه الى أن يؤسس أولى خلايا الحزب الشيوعي في بلدته العام 1931، ويحارب من أجل انتصار الجمهوريين حتى أصيب في قدمه، ليقضي بقية عمره وهو أعرج. 

في عام 1936، وبعد سقوط الجمهورية في اسبانيا، وملاحقة الجنرال فرانكو للجمهوريين، هرب حلاقنا الى فرنسا، حاملاً معه أحلامه ووجعه ورجله المعطوبة وعشق أسبانيا الذي لا ينتهي، لكنه لم يكن يعرف أن هذا الأمر سيجعل اسمه باقياً في التاريخ أكثر من الملايين الذين يحملون الشهادات.

 وفي فرنسا انضم فوراً إلى المقاومة، والتقى بالرسام الكبير بيكاسو.

بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، افتتح آرياس محلاً للحلاقة في بلدة بياريوس الفرنسية، التي كانت نفس البلدة التي يعيش فيها بيكاسو، فأصبحا صديقين حميمين لاسيما وان كليهما يعشق أسبانيا، وكليهما هرب من دكتاتورية فرانكو، وكليهما ميال للأفكار الاشتراكية، وكليهما جمهوري، مقهور ومهجّر عن بلده وحياته، وكليهما قد شارك في المقاومة الأسبانية أيضاً، لذلك لم يكن غريباً أن يصبح آرياس حلاقه الخاص، فكان يرفض أن يتقاضى أجراً عندما يحلق شعر صديقه بيكاسو، وكان الرسّام يكافئه بأن يهديه بعض لوحاته، حتى جمع بهذه الطريقة 60 لوحة من لوحات بابلو بيكاسو . وبعد وفاة الأخير سارعت المتاحف العالمية الكبرى،  تعرض على الحلاق آرياس ملايين الدولارات لشراء اللوحات لكنه رفض جميع هذه الاغراءات، إنما قام بتقديمها هدية إلى قريته الأسبانية الصغيرة التي تقع شمال العاصمة مدريد، مضحياً بملايين الدولارات من أجل أن يرفع شأن قريته، ويجعل منها مقصداً سنوياً للملايين من عشاق بيكاسو، فساهم في خلق نشاط اقتصادي كبير لهذه القرية، بدلاً من أن يحقق ربحاً شخصياً له .

توفي حلاق بيكاسو في العام 2008 فقيراً، وقد ودّعته بلدته الصغيرة،

 وأسبانيا كما يُودَّع الأبطال ، ولم يزل متحفه الذي افتتح في العام 1985 والمسمى "متحف حلاق بيكاسو" مفتوحاً في قريته، حيث تحولت هذه القرية الإسبانية الصغيرة إلى أهم الأمكنة السياحية في اسبانيا وتحوّل أرياس الى أشهر وأنبل حلاقي العالم بعدما كان منسيّاً ككلّ الفقراء !

وسؤالي في خاتمة القول: ماذا لو كان حلاق النحات جواد سليم وحلاق الرسام فائق حسن أو حلاق شاعر العرب الجواهري أو حلاق مظفر النواب، قد فعلوا مثلما فعل حلاق بيكاسو.. إذ كم من الكنوز العظيمة تكون لدينا اليوم وهي مزدحمة بالمنحوتات والمخطوطات، والنصب التي تشبه نصب الحرية، وكم سنجد فيها من القصائد التي ضاعت علينا وما أكثر ماضاع ؟!

علق هنا