كي لا نقع في المحظور مرة أخرى.. تقرير توثيقي يرصد اهدار العبادي لفرصة ذهبية لتجنيب العراق الخسائر المادية والبشرية

بغداد- العراق اليوم:

لا يمكن ان يبقى العراق شعباً وأرضاً وتاريخاً ومستقبلاً محض تجارب واختبارات مؤسسة على الرغبات الشخصية وخاضعة للنوازع والطموحات الفردية.. فالتجربة حين تتكرر دون استفادة تصبح عيباً على المجرب، شخصاً كان، أم مؤسسة، أو كياناً أو دولة، بل وستكون عاراً على من له عقل يفكر، ولا يتعظ من أثر تجربته.. وهكذا الحال في تجارب الشعوب التي وضعت تجاربها نبراساً يضيء لها مستقبلها، ويرشدها الى الطريق المنير ..

وتأسيساً على هذه المقدمة، مرٌ العراق بتجارب وعهود سياسية وعسكرية كثيرة وكبيرة، بعضها كان كارثياً، كتجربة حكم البعث، وخصوصاً فترة المقبور صدام حسين، والبعض الآخر كان إيجابياً وزاهراً مثل تجربة حكم الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، وثمة عهود لاحقة كانت تجارب الحكم متفاوتة بين المقبول والسيء والأسوء، لذلك يتوجب على شعب عظيم مثل شعب العراق أن يدرس هذه التجارب بحيادية واخلاص من أجل استخلاص العبر، والمضي بوعي ورؤية وبصيرة مفتوحة ومدركة لما سيحصل في القادم.. لذا أعددنا في (العراق اليوم)، عدة تقارير عن فترات الحكم المختلفة التي مرٌ بها العراق، ومن بينها هذا التقرير التوثيقي الذي يرصد ما وقع به الدكتور حيدر العبادي من أخطاء جسيمة وكبيرة تصل الى مستوى الجرائم، في فترة رئاسته حكومة العراق، ومن بين هذه الأخطاء اهداره الفرص الذهبية التي  اتيحت له، وكيف لم يتمكن من أخذ زمام المبادرة والاتجاه نحو إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة.

حيث نعود بكم في هذا التقرير الى اصلاحات العبادي " المزعومة" في ٢٠١٥، واليكم بعض التفصيل:

 في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٥ صوت مجلس النواب انذاك  على إلغاء أي "تفويض" ممنوح لرئيس الوزراء حيدر العبادي لإجراء إصلاحات، ماوضع حداً لفترة امتدّت أحد عشر أسبوعاً وبدا خلالها أن رئيس الحكومة الضعيف يقود موجة شعبية. واقع الحال هو أن الحقبة القصيرة من "إصلاحات العبادي" - بدءاً من صدور بيانه الأول عن الإجراءات الإصلاحية في التاسع من آب/أغسطس ٢٠١٥ - لم تُصوَّر على حقيقتها، سواءً لناحية ماكان يقوم به العبادي أو الأسباب التي تقف خلف معارضته. فالأمران مرتبطان بالصراع التقليدي على السلطة أكثر منه بمحاربة الفساد، والسبب في إخفاق العبادي في تطبيق الإصلاحات حتى الآن يعود إلى الهفوات التي ارتكبها بنفسه، وليس فقط إلى الجهود التي يبذلها خصومه الشيعة لإضعافه.

جميع "إصلاحات العبادي" - تلك التي يمكن اعتبارها محددة وقابلة للتطبيق - كانت عبارة إما عن إجراءات تقشّفية، مثل إلغاء المناصب الحكومية غير الضرورية، أو عن خطوات رمزية، مثل إلغاء مناصب نائب الرئيس الثلاثة، والتي كان نوري المالكي يشغل أحدها. الإجراءات التقشفية ضرورية بطبيعة الحال، نظراً إلى أن البلاد تواجه أزمة سيولة في خضم تدنّي أسعار النفط، لكنها غير قادرة على إحداث تحوّل في المنظومة السياسية. فالعبادي لم يطبّق، ولاحتى اقترح إجراءات تهدف إلى ردم الهوّة الشيعية-السنّية، أو خوض الحرب ضد تنظيم داعش بفعالية أكبر، أو محاربة الفساد - على الرغم من أن الإعلام الغربي يحاول ترويج العكس.

ساهمت ثلاثة عوامل في تهيئة الساحة للتصويت البرلماني في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٥ ، والذي كانت نتيجته عدم السماح للعبادي بتطبيق الإصلاحات إلا بالاتفاق مع الأفرقاء السياسيين الآخرين في مجلس النواب. العامل الأول هو أنه تجاوز فعلاً حدوده الدستورية. فالدستور ينص على أن يكون للرئيس نائب واحد على الأقل، كما أن قانون 2011 الذي يُحدّد إطار عمل قانونياً لتعيين نواب الرئيس وإقالتهم، لايمنح رئيس الوزراء دوراً في هذا المجال. كذلك، أصدر العبادي في 16 آب/أغسطس ٢٠١٥  مرسوماً تنفيذياً ينص على دمج بعض الوزارات وإقالة بعض الوزراء، مع العلم بأنها صلاحية منوطة حصراً بمجلس النواب. في 11 آب/أغسطس من العام ذاته، صوّت البرلمان على إقرار الإجراءات التي أعلن عنها العبادي في 9 آب/أغسطس، لكن بعضها - لاسيما إلغاء مناصب نواب الرئيس - كان مخالفاً للدستور، ولم يصادق البرلمان بعد ذلك على أي من الإجراءات التي أعلن عنها العبادي لاحقاً.

أحجم خصوم العبادي الشيعة عن دعم الإصلاحات التي اقترحها انطلاقاً من المخاوف بأنه يحاول وضع برنامج سياسي بديل قد يؤدّي إلى تهميش الأحزاب ، وليس بدافع المعارضة لأي مجهود إصلاحي جذري، كما لمّحت بعض وسائل الإعلام بطريقة غير دقيقة. ومن المؤكّد أن غياب الدعم لايرتبط بأية طريقة من الطرق بأي مجهود واسع النطاق لمحاربة الفساد. فقد قلّل العبادي نفسه من شأن التوقّعات بملاحقة شخصيات رفيعة المستوى قضائياً، مشدّداً على أن الهدف الأساسي من الإصلاح هو القضاء على "الهدر" وليس على "السرقة". الإجراء الوحيد الذي اتّخذه لمكافحة الفساد هو تشكيل لجنتَين، الأولى معنيّة بالشفافية ويترأسها العبادي نفسه (جرى الإعلان عنها في 9 آب/أغسطس، وانقطعت أخبارها منذ ذلك الوقت)، والثانية معنيّة بالنظر في استخدام الأحزاب السياسية للأملاك العامة. وقد أبقى حسن الياسري من حزب الدعوة الذي ينتمي إليه العبادي، على رأس هيئة النزاهة المكلّفة ملاحقة المتورطين في قضايا الفساد. في الواقع، لاأحد من الأشخاص الذين طالتهم التحقيقات والملاحقات القضائية منذ آب/أغسطس الماضي هم من المقرّبين من الكتل الأساسية، سواءً الشيعية أم السنّية.

أبعد من الطموحات الشخصية، تتسبّب السياسة الأمنية والخارجية أيضاً بالتباعد بين العبادي وخصومه الشيعة.

العامل الثاني في انتكاسة العبادي يتمثّل في فشله في بناء تحالف سياسي، أو على الأقل تكوين إجماع عام، من أجل وضع برنامج إصلاحي. أعلن العبادي عن "حزمة الإصلاحات" الأولى في مطلع حكمه ، إبان احتجاجات واسعة في بغداد وفي جنوب البلاد ووسطها. تركّزت هذه التحركات في المناطق الشيعية في شكل أساسي، لكن خطابها لم يكن مذهبياً، وقد ركّزت على المسائل التي تعني المصلحة العامة، لاسيما الفساد وانعدام الخدمات العامة الأساسية مثل الكهرباء. كان الناشطون الأساسيون الذين شاركوا في الاحتجاجات علمانيين على المستوى العقائدي، وبحلول شهر آب/أغسطس ٢٠١٥ ، كانت مشاعر العداء للإسلاميين قد أصبحت أكثر وضوحاً في المقابلات التلفزيونية مع قادة الاحتجاجات. بدأت القناة التلفزيونية الرسمية تضع صورة العبادي وعبارة "إصلاحات العبادي" في خلفية الإطار في نشراتها الإخبارية، وبدأ بعض المتظاهرين يهتفون باسمه، ويطالبونه بمحاكمة المسؤولين الفاسدين من الحكومة السابقة، لكن لم يمضِ شهر على إعلان العبادي عن إصلاحاته الأولى حتى بدأ قادة الاحتجاجات بالتعبير عن خيبة أملهم منه.

لم تفشل الإجراءات التقشفية الضرورية التي أطلقها العبادي في الاستجابة لمطالب المحتجّين بمحاكمة المسؤولين وحسب، بل تسبّبت أيضاً بعزله سياسياً. وكذك طرح ظهور رواية سياسية إصلاحية جديدة .

العامل الثالث، والذي يقع تماماً ضمن سيطرة العبادي، تمثّل في إخفاق برنامجه الإصلاحي لتسوية الرواتب في القطاع العام. فقد أقرّ مجلس الوزراء مشروع قانون في 13 تشرين الأول/أكتوبر الماضي ينص على زيادة رواتب ذوي الأجور المنخفضة وخفض رواتب ذوي الدرجات العالية، وأعلن المتحدث باسم العبادي أن سلم الرتب والرواتب الجديد سيدخل حيّز التنفيذ على الفور. لكن الحكومة لم تصدر إرشادات واضحة حول حجم خفض الرواتب. وقد تحدّثت معلومات عن أن مهنيي الطبقة الوسطى يواجهون خفوضات مباشرة تصل إلى خمسين في المئة. حتى لو كان هذا الرقم مبالغاً فيه، اندلعت احتجاجات ضد العبادي شاركت فيها الطبقة المهنية في القطاع العام التي تشكّل شريحة واسعة من العراقيين. بعد أسبوعَين من الاحتجاجات العامة، تراجع العبادي عن قراره، وأشار إلى أنه سيتم تعديل الإصلاحات وتأجيلها، لكن الضرر كان قد وقع - فقد تجذّرت لغة جديدة للاحتجاجات ضد "إصلاحات العبادي"، ماشكّل غطاء للأطراف الأخرى كي تتحرّك ضد رئيس الوزراء.

العبادي  فوّت فرصة وضع برنامج عام للإصلاح.

علق هنا