(في ذكرى رحيله) عبد كاظم.. الملكُ يبقى ملكاً

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

قبل سبعة عشر عاماً، رحل الكابتن عبد كاظم الى مثواه الأخير.. لكنّ الملفت للنظر، أن أبا فراس لم يغب عن ذاكرة الناس لحظة واحدة، إذ ظل وبلا مبالغة، أو تفخيم مجاني، يتجدد في العقول والقلوب مثل شعاع الشمس الذي يتجدد   كل صباح. وإذا كان الراحلون يمضون شيئاً فشيئاً الى عالم النسيان بعد رحيلهم، فإن عبد كاظم قد أثبت العكس من ذلك، إذ صار الناس يتذكرونه ويفتقدونه، ويتمنونه أكثر من قبل، وبات حضوره - رغم غيابه الجسدي - أكثر قوة وفاعلية، ولا أعرف سبباً لهذه الحالة، ألِأن الرجل نموذج فريد قلَّ مثيله في الزمن الحالي، حيث يفتقد وسطنا الكروي اليوم لقائد نظيف ونزيه ووطني وكريم وشجاع، ومحب للناس، وناكر للذات مثله، أم لأنه يحمل مزايا ومواصفات جماهيرية وشعبية، وإنسانية، لا تتوفر في غيره، وهي لعمري مواصفات لا يمنحها الله إلّا لمن يشاء؟

  لقد باتت العلاقة الحميمية بين الناس والراحل عبد كاظم أمراً استثنائياً مُلفتاً، وظاهرة اجتماعية تستحق الدراسة، إذ ما أن يطرح اسم عبد كاظم في حديث، أو جلسة، أو لقاء إلّا وتسمع قلوب الحاضرين تشيد به قبل الألسن.. وما أن يجري الحديث عن المواقف البطولية، والرجولة، والشجاعة العراقية النادرة حتى تجد لأبي فراس مكاناً بارزاً في هذا الحديث. وأنا شخصياً تلمست، وتحسست ذلك الحب الجماهيري لعبد كاظم، من خلال ردود أفعال الناس، وهم يعانقونني ويقبلونني بعد كل مرة ألقي فيها قصيدتي عنه، أو عندما يعرفون عمق علاقتي الأخوية به، حيث يغمرونني بالحب، والعطف والمودة، وهي بعض من المودة التي يكنّها هذا الجمهور لعبد كاظم.. فو الله ما ذهبت لمدينة عراقية إلا ووجدت محبة عبد كاظم تشع في عيون الناس، وما نطقت باسمه إلا وسمعت ألف آه  وآه على رحيله المفجع، ولسان حالهم يقول : في الليلة الظلماء يفتقد البدر .. لكنهم، أي بدر منير افتقدوا ..؟

لا أتفق مع الزملاء الصحفيين الذين يقولون إن الجمهور العراقي الرياضي أحب عبد كاظم بسبب مهاراته الكروية الفنية المتقدمة فقط، لاسيما وقد تربع على عرش الكرة العراقية ( ملكاً للتغطية ) لأكثر من عشرين عاماً، واستحق أن يكون واحداً من ثلاثة لاعبين عراقيين فقط يتم اختيارهم لتمثيل منتخب العرب الكروي طيلة نصف قرن، لأني أرى أن ثمة لاعبين عراقيين كباراً لا يقلّون مستوى وقدرة إبداعية عن عبد كاظم لم يحظوا بنصف ما حظي به أبو فراس، رغم مواهبهم الكروية الفذة.. كما اني لا أتفق كثيراً مع بعض السياسيين الذين يقولون إن ( وطنية ) عبد كاظم الفائقة، ونشاطاته السياسية المعادية للدكتاتورية، قد جلبت له كل هذا الحب الجماهيري، لأن هناك مناضلين وطنيين أفنوا  زهرة شبابهم في مواجهة الطغاة، ولم ينالوا نفس الحب الذي ناله عبد كاظم من الجماهير الشعبية..

 وباعتقادي، فإن أسباب محبة الناس لعبد كاظم تعود لما يمثله عبد كاظم نفسه من قيم اجتماعية وأخلاقية، ووطنية، ورياضية لم تعد متوفرة في المجتمع العراقي اليوم. فعبد كاظم كان مناضلاً عظيماً دون أن يكون حزبياً سياسياً.. وكان لاعباً لامعاً في الملاعب فقط، وليس في خارجها.. بمعنى أنه لم يمارس ألمعيته الرياضية في غير محلها.. وكان شجاعاً حقيقياً يحمل كل مؤهلات ومزايا الشجاعة، فأظهرها في وقتها، عندما استدعت الشجاعة منه موقفاً شجاعاً.. ولا يحتاج القارئ الكريم الى أن أعيد لذاكرته المثال البطولي لعبد كاظم في ( أستراليا )، بعد أن صار هذا المثال الباسل هوية عبد كاظم وجنسيته الرياضية. كما كان عبد كاظم إنساناً بمعنى الكلمة، حيث حمل في قلبه معاني إنسانيته، فترجم هذه المعاني كأروع ترجمة.. ويقيناً بأني أحفظ العشرات من أمثلة المعاني الإنسانية لأبي فراس، فكم مرة أعطى كل ما في جيبه لمحتاج فقير، دون أن يسأل عن جنسية المحتاج، أو لغته، او دينه، ثم يعود بعدها لبيته خالي الوفاض، حتى أن عقيلته السيدة أم فراس لم تكن تسأله مرة واحدة عن سبب هذه العودة المفاجئة، لأنها تعرف مسبقاً أنه قد أعطى ما في جيبه لشخص ما، إذ اعتادت هذه السيدة الكريمة من زوجها ذلك كثيراً. وللحق، فقد كانت أم فراس سعيدة بهذا النبل، وهذا السمو الروحي والأخلاقي الذي يتحلى به زوجها الشهم..

وكي لا أطيل في شرح أسباب محبة الناس لعبد كاظم، سأكتفي بجملة واحدة أختصر فيها كل ما أريد :-

 لقد كان عبد كاظم عراقياً حقيقياً .. والعراقي الحقيقي لا يتكرر في هذا الزمن المزيف..

لقد مرَّت سنوات عديدة على رحيل ( الملك ) عبد كاظم، سقط فيها ملوك وملوك، وتدحرجت فيها تيجان وتيجان.. لكن أبا فراس لم يزل ملكاً متوَّجاً بمحبة الناس.. فهل يسقط التاج الذي تصنعه محبة الناس؟ .

علق هنا