الدراجي يكتب الرثاء الأخير لصاحبة ( أغاني عشتار) التي ماتت في (زاوية خالية) من هذا العالم الموحش

بغداد- العراق اليوم:

الحقيقة- حيدر قاسم:

استعيرُ عنوانين لديوانين شعريين للراحلة الكبيرة لميعة عباس عمارة، لأضعهما عنواناً لهذه المقالة الاحتفائية بما كتبهُ الشاعر فالح حسون الدراجي عن رفيقة دربه الشعري، واحدى الأيقونات المضيئة في سفرِ الشعرية العراقية الممتلئ بالشعرِ والابداع، والأقدار الغريبة ايضاً، كغرابة الحياة في بلاد الرافدين ذاتها.

قبل ايام وعلى منصة الكترونية، اطلعتُ على  قصيدة الشاعر فالح حسون الدراجي، وهو يكتب رثاءً طافحاً بالاستذكارات لشاعرة كانت من أوائل الذين شكلوا عصر النهضة الادبية في العراق، رفقة شعراء كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وغيرهم، ومن اللواتي كن في مقدمة ركب المرأة الجديدة في بلاد ظلت ترزح قروناً طوالا تحت نير الجهل والتخلف والعبودية.

جاءت قصيدة الرثاء الأخيرة التي عنونها شاعرها " نخلة العمارة" لتكتب فصلاً جديداً من عذابات الشاعر العراقي الذي يقتلعهُ القدر من جذره الأول، ويرميه مشرداً يبحث عن ذاته، ومكانه الذي انزاح عنه عنوةً، ودارت به لعبة الحياة دورتها الغادرة، فتعصف به رياح الاغترابات الداخلية والخارجية، معلنةً تهشم الروح الشاعرة وتمزقها الى قصائد تحفر بقوة في ضمير ووجدان متلقيها، بينما يكمل الشاعر دورة احتراقه بلا توقف.

محنة الوجود الشعري، محنة أصيلة في ذات الشاعر، تتحول الى محفز داخلي ليفجر مكامنه الابداعية، وتتحول الذات الشاعرة الى مصهر عظيم لهموم جيل كامل، فكيف إن كانت هذه المحنة متواصلة لعقود طويلة، وتشكل له اغتراباً حقيقياً عن البيئة الأولى والمكان الأول؟.

تعيد قصيدة "نخلة العمارة"، بلغتها الاستذكارية البعيدة عن الحزائنية المباشرة، الاحتفاء بالمشترك الإنساني، وتعيد الاضاءة على مساحة التنوع الثقافي والقيمي الذي كان يمثل ركيزة اساسية في بناء مجتمع ما قبل الحرب والطغيان، فالشاعر لا يرثي الشاعرة الراحلة بلغة التفجع المعتادة، قدر ما يحول اسطورة الرحيل الأبدي ( موت الشاعرة ) الى مناسبة انبعاث لذاتهما الجريحة، ويفتح كوة في مسيرة طويلة انتهت الى محطات متشابهة رغم اختلاف الطرق المؤدية لذلك، لذا يقول في مطلع القصيدة:

أنه وياچ انتشابه بالمحطات ..                  

وتتخالف سچچنه ابعض الدروب

قطارات العمر نفس القطارات        

والگلوب التلوِّح نفس الگلوب       

وتأكيداً على أن الشاعر لا يخرج من دائرة العذاب الأزلي الذي كابده، فأنهُ يعترف للمرثية (الراحلة)  بأنهما شريكان فعلاً بهذه الجزئية:

أنه وياچ انتشابه بالعذابات                        

وشراكه إثنينه بشوغات الغروب    

تعبنه من السفر ومن المحطات                    

ومن شيل الجنط حادينه متعوب

تعب حتى الدرب من المسافات                    

والدروب أشتكت من طول الدروب

واذا كانت هذه المشكلة الأزلية هي التي تقف وراء رحلة التيه العظيم الذي عاشه المبدع العراقي، لكنه بقي وفياً لتربته التي شكلت جذره الانساني، ومدته، بانحيازاته المكانية الصارخة في لغته الشعرية المفرطة بالحس والتجلي وفيض المشاعر، لذا تراه يقول:

خذتنه الريح غفله إعله الولايات                        

وظل وحده العراق إگبالنه يذوب

ويستمر الرثاء التصاعدي، متحولاً الى استذكارات تنثال تتابعاً من لاوعي الشاعر، أو عمق الأزمة التي تتكثف لتنتج نصاً يحمل قيماً عديدة ظهرت مباشرةً في النص او اختبأت خلف رموز وظفها الشاعر بدقة، كالأرض، الأم، المدينة، الانتماء، العقيدة، الفكر، التنوع، حيث يواصل بالقول:

رضعنه الطيب من صدر النجيبات                  

وتنفسَّنه الصُبر من ريَّة أيوب

عسل ماي الحِّبوب بذيج الاوقات                       

  وأنه وياچ ارتوينه بماي الحبوب

وإذا كان المكان الأول يشكل بحسب النقاد والمختصين في الشعر، اللبنة الأولى في بناء مخيال الشاعر، ويظل مرافقاً له حتى وان تنوعت المحطات، وتغيرت الأماكن، فأن العمارة، بوصفها مرتعاً أولاً لكلا الشاعرين، ظلت تظهر في نص الاحتفاء الذي كتبه الدراجي، لرفيقته "لميعة"، واعادنا نص الدراجي الى ما يقارب النصف قرن من الزمن او ابعد من ذلك، لتظهر صورة المدينة المتآخية، البسيطة، الجميلة عبر رسم ملامحها شعرياً كما يقول النص:

مثل برحي العمارة .. واحلى مرات                

أهلنا الصابئة امحليِّن الجنوب

بالعمارة الأمان ابيتج يبات                            

وحمامات السلام ابيتنه تجوب

الفجر قبل الفجر يبعث تحيات                        

وعلى اسطوح الليالي الغزل مرغوب

وفي صورة تعبيرية ناطقة، تحتفي القصيدة بالصباح بوصفه أولى بشائر التجديد الإنساني، واللحظة التي يبدأ فيها الخلق والتفتح بين الانسان والطبيعة، بل وتذهب الصورة الشعرية الى خيال عميق جداً، حد تحول المشهد سريالياً، حين يتصور الشاعر أن "الغروب في تلك المدينة المترعة بالمياه العذبة، يتمشى برفق على هدوء ساعات المساء الأولى:

بالعمارة الصبح أحله الصباحات                      

وعلى افياي العصر يتمشه الغروب

الشاعر يدفعه الحنين الكامن، واللحظة القاسية للتذكير بما عاشه في مجتمع، كانت الإنسانية هي سمته الأساسية، فأين هي العمارة الغائبة الآن يا لميعة؟:

بالعمارة أصدقائي ويا صداقات ؟                              

مسيحي وصابئي وسيدنا يعقوب

وابن عزره اليهودي بصفي بالذات                                                  

حليب المدرسة انشربه ابفرد كوب

هذه البيئة الفريدة، هي من شكلت وعي أبنائها الذين تركوها قسراً او طوعاً، لذلك فأن الشاعر يرى ان تركه هذه البيئة شكل الجحيم الشعري المتفجر، الذي أصبح هاجساً يلاحقه أينما حل، وبقي يترجم انفعالات الانزياح عبر ما ينتجه من نصوص تحاكي في باطنها الحاجة الى " المكان" بمعادلاته الموضوعية الغائرة، ولذا فأن مفردات الحبيبة، الأم، النهر، الغروب، الليل، كلها تحيلك الى معادلها الحقيقي ( المدينة- المكان).

تذهب القصيدة ايضاً الى مدى اخر، في التعبير عن الحاجة لاستعادة الزمن الضائع، أو على الأقل التذكير به كنوع من اعادة التوازن لشكل العلاقة بين الشاعر ومحيطه الخارجي، يقول:

مثل ذاك الزمن ما نلگه هيهات                            

خمس أديان مجتمعات بگروب

بالگلوب النحبها أزرعنه شتلات                            

ذبلنا وما ذبل وَردِ البلگلوب

يمتد النص الشعري مخاطبا المحتفى بها، ويبدع الشاعر في اختياراته الوصفية الدقيقة، فالشاعرة تساوي القمر، وبدونها ستظل الدروب مظلمة وحزينة، وهي نخلة عراقية شامخة، كانت موئلاً لليمام والجمال، الذي اكتنزته روحه المليئة بالعذوبة والترف، بل ويمتد النص للغوص في اعماق التاريخ ليشير للقارئ والمتلقي الى ان هذه الشاعرة عراقية اصيلة، سومرية ممتدة الى اعمق حضارة انسانية ظهرت في الوجود بالجنوب العراقي، وهي حضارة سومر العظيمة:

لميعتنا كمر واحنه الها خطوات

ومن دون الگمر ما تنمشي ادروب

مثل بستان جانت للحمامات                          

وبفيَها انكسَّر چم گيظ لاهوب

وجه مملي حضارة وشغل  نحات                        

مثل وجه الفجر خالي من العيوب

بوسع حزن السمه وعمق السماوات

  حزنه أوسع بعد وأعمق بالكلوب

يشير المختصون بعلم الحضارات الأولى، الى ان النهر شكل على ضفافه أولى الحضارات البشرية، وبقي مصدراً من مصادر الهام الشعراء والأدباء، واختزل الكثير من تجليات الانسان في سيرورته التاريخية، لذا فمن السهولة بمكان ان تعرف أصل الشاعر الأول، أو كما قلنا جذره الانساني وأسه، فكيف والراحلة من ديانة لها علاقة أزلية بالمياه والنهر؟، لذا فأن الدراجي اضاء بحذق هذه الجزيئة، فهي نهر يتعمد فيه الشعر كله، وان كانت مياهه من دموع المحبين والعشاق والملهوفين والمنسيين ايضاً، يقول :

لميعتنا النهر والماي دمعات

 شيلم الدمع لو تبجي الكلوب ؟

لميعتنا ورد ويه النده يبات

واذا تلمس حجر بجفوفها يذوب

أهي أم مازن قصيدة وعطر الابيات                          

سِكرنه برَّوعتچ من غير مشروب

سلاماً .. وأختصر كل المحطات                                  

أبمحطة غيبتج يا طيب الطيوب

  القصيدة تحولت الى مناسبة او محطة ليعيد الشاعر بناء الصورة الغائرة بعيداً في عمق فداحة المشهد الأخير، و لم يستطع الفكاك من ترجمة مشاعر الفقد والحزن والخيبة لربما والخسارة، بفقدانه احدى ايقونات الذاكرة الشعرية التي مثلت علاقته الشخصية بها وصداقتهما فضلاً عن انتمائها الفكري المتقارب نوعا ما، جزءاً من بناء الذات المشتركة لجيل ادبي عانى طويلاً من توالي المحن والاضطراب والمنافي الباردة البعيدة عن أرض الحلم الأول، يقول:

الخسارة برحلتج أقسى الخسارات         

وشيعوض الچبد للچبده مصيوب؟

يمضي الشاعر الى القول بجزم واعتقاد حزين بأن الرحلة الأخيرة، لا عودة فيها، وأنها سفر نهائي، فلا محطة يرتجى فيها لقاء، ولا أمل أن تستعاد الحياة الأولى بتلك البديات، رغم أنه وظف طاقته التعبيرية عن " نوستالجيا" حالمة، يقول :

وداعاً..  والقطار يعود .. هيهات؟

وهيهات الخذاج أيرجعچ النوب

يعيِن الله القصايد عالمقبلات                                

إذا كنز الشعر يومية منهوب !

وكأي سومري يعتقد ان الموت فاصلة فقط ، بينما الخلود الحقيقي هو ما يبقى من اثر لأي راحل، فأنهُ رغم ادراكه الغياب المادي المباشر للشاعرة، لكنه مؤمن بأنها ستظل شمساً ساطعة مهما كان الغروب قاسياً، شديد العتمة، فخيوط شِعرها، ستمزق ذلك الستار الكثيف كلما مر حالم او عاشق او مسافر على نصوصها الضاجة بصخب الحب والحياة والأمل:

لذلك راح أگول المات ما مات                            

الشمس متموت إذا داهمها الغروب

ولميعتنا الشمس فوك المظلمات                          

ومن لمعة ضواها نترس الجيوب

لميعتنا الأميرة اعله الأميرات                        

ومُلك طابو هواها لكل الگلوب

علق هنا