جواد سليم أب شرعي للحداثة العراقية اخترع بغداده

بغداد- العراق اليوم:

من الصعب تخيل شكل العاصمة العراقية بغداد من غير نصب الحرية. أهمية ذلك النصب بالنسبة إلى عامة الناس لا تكمن في القيم الجمالية الحديثة التي ينطوي عليها ولا في رمزيته التي يلخّصها عنوانه في إشارة واضحة من مرحلة من مراحل التاريخ العراقي المعاصر بل لأنه وهب مركز المدينة هيأة معمارية لا يمكن للعين سوى أن تحتفي بجلالها.

إذا ما كان جواد سليم وهو صانع ذلك النصب مشهورا بين العراقيين في صفته نحاتا، فإن دوره الأساس في الحداثة الفنية يكمن في ما فعله من أجل تثوير وتغيير الرسم وإخراجه من عقدة المفاهيم التقليدية، وهو ما أهّله أن يكون أباً للحداثة الفنية في العراق، من غير منازع.



نصب يقاوم الانقلابات

مثلما كان نصب الحرية مأثرة حياته فقد كان في الوقت نفسه مأثرة موته. فالنحات الذي لم يكن حاضرا حفل افتتاح نصبه الذي خلده كان قد استسلم للموت، بسبب الجهد الذي بذله من إنجاز ذلك النصب. وهو جهد لم يقاومه قلبه المريض أصلا.

وعلى الرغم من مضي أكثر من نصف قرن على وفاة سليم وقد مات شابا فإن فنه لا يزال استثنائياً، في أصالته ومعاصرته معا. لا يزال درسه الفني حاضرا بقوة. وهي مكانة لم ينافسه عليها أحد، بالرغم من ظهور فنانين عراقيين، هم أكثر معاصرة منه.

لا أحد ترك بصماته على الفن التشكيلي في العراق مثلما فعل جواد سليم.

ولم يكن النصب موجودا لكان فنانه موجودا باعتباره أيقونة، يقف العراقيون أمامها كلما فكروا في الجمال الذي تقع في جف مرآته روحهم الحقيقية التي خانها الواقع.

سليم هو الابن الوفي لتلك الروح. مكتشفها وأحد صانعي أجنحتها عبر التاريخ. لذلك فإن العودة إليه هي جزء من محاولة العودة من العراق الذي صار الكثيرون يشعرون أنه قد اختفى.

عبقرية سليم تقول شيئا مختلفا. لقد قاوم نصبه أهواء السياسيين عبر أكثر من خمسين سنة من الانقلابات. لذلك فإن استعادة فنه هي اليوم نوع من المقاومة.

سيد الحداثة والمبشر بها

ولد جواد محمد سليم في أنقرة في العام 1920 لأبوين عراقيين. كان والده قد تعلم الرسم كجزء من دروسه ضابطا في الجيش العثماني. وهو ما ألقى بظلاله على مصائر الأبناء وأختهم الوحيدة.

لقد سبق سعاد أخاه جوادا إلى الشغف بالرسم ثم التحقت بهما نزيهة إلى أن جاء دور الابن الأصغر نزار ليصبح رساما هو الآخر. كان جواد في طفولته مولعا بصنع الدمى الطينية التي هي مادته في اللعب وهو ما كشف عن موهبة مبكرة أهلته لينال جائزة في أول معرض للفنون التشكيلية يقام في بغداد العام 1931.

كان يومها في الحادية عشرة من عمره. وما إن أنهى دراسته الثانوية حتى حصل على بعثة لدراسة النحت في باريس بين عامي 1938 و1939، بعدها غادر إلى روما للغرض نفسه ليغادرها إلى بغداد ويؤسس فرع النحت في معهد الفنون الجميلة وكان زميله فائق حسن (1914-1992) قد سبقه إلى تأسيس فرع الرسم في المعهد المذكور.

ما بين عامي 1946 و1949 درس سليم الفن في لندن وتزوّج هناك من فتاة إنكليزية اسمها لورنا، عاد بها إلى بغداد لتنضم إلى المشهد الفني الحداثوي الذي صار نجمه الطالع وداعية تطويره باعتبارها رسامة.

عام 1951 أسس الفنان جماعة بغداد للفن الحديث التي كتب بيانها الأول شاكر حسن آل سعيد (1935-2004) وقرأه سليم بنفسه في حفل، سيكون بمثابة نقطة انطلاق للحداثة الفنية في العراق والتي كرّس سليم من خلالها عمليا مفهومي التراث والمعاصرة والمواءمة بينهما. وهو ما كان واضحا في تجربته الفنية حين امتزجت تأثيرات يحيى الواسطي، الرسام العراقي في القرن الثاني عشر بتأثيرات الإسباني المعاصر بابلو بيكاسو.

عام 1959 تم تكليف سليم بتنفيذ نصب من أجل تخليد الثورة التي أسقطت قبل سنة النظام الملكي في العراق وأقامت نظاما جمهوريا بدلا منه فذهب إلى روما.

هناك عمل بالطرق التقليدية على إنجاز 14 قطعة عملاقة من النحت الجداري هي أجزاء نصبه الشهير والتي جرى صبها بمادة البرونز. وهو ما أرهقه صحيا وأدى إلى وفاته عام 1961 بعد أن أكمل عمله، الذي صار بمثابة وصيته إلى التاريخ العراقي المعاصر.

جرت محاولات عديدة لإزالة ذلك النصب، غير أنها لم تصل إلى هدفها بسبب تغلغل النصب في العاطفة الشعبية من جهة وفي معمار المدينة من جهة أخرى. غير أن الحكومة نجحت في العام 2016 في إزالة التمثال الذي أقيم من أجل تخليد الفنان شخصيا والذي وضع في واجهة قاعة كولبنكيان، وهي أقدم قاعة فنية في بغداد.

جواد سليم هو الرقم السري الوحيد الصعب في سيرة الفن التشكيلي المعاصر في العراق. فالرجل الذي لم يترك كثيرا من الأعمال الفنية بسبب عمره القصير لا تزال رسومه ومصغّرات منحوتاته وقطع نصبه الشهير تضعنا في مواجهة خلاصات جمالية، لم تستطع التجربة الفنية في العراق، بالرغم من قوتها وعمقها وعصف مغامرتها وتنوع اتجاهاتها تجاوزها.

لا يزال في الإمكان النظر إلى رسوم ومنحوتات سليم من جهة ما تتركه من تأثير جمالي ساحر، هو ما يضفي عليها صفة القطع الفنية الخالدة التي لا تفقد مكانتها. كان سليم فاتحا كبيرا.

من خلاله انفتح الفن التشكيلي العراقي على تحولات الفن الحديث في العالم المعاصر، غير أنه في الوقت نفسه استطاع أن يقبض على الجوهر الحيّ للروح العراقية. فكان مزاجه بغداديا بعمق، بالرغم من أن أسلوبه كان قد تميز بالاقتضاب والزهد فكان لا يُظهر إلا ما هو ضروري. هناك الكثير من الحذف في رسومه، كما لو أنه كان متعففا عن قول ما يعرفه المتلقي.



الرسام الذي لا يزال فاتحا

المشاهد البغدادية التي رسمها لم يرها أحد من قبل أن يرسمها بالرغم من أنها كانت مستعارة من حياة البغداديين اليومية. لقد استولى سليم من خلال الرسم بالذات على بغداد وصنع منها عاصمةً لعالمه الشخصي المتخيل. إنها بغداده كما عرفها. وأيضا كما حلمها أيضا.

عُرف سليم بولعه بالموسيقى. كان غيتاره يحتل مساحة في مرسمه الذي كان جزءًا من متحف الرواد ببغداد الذي تعرض للنهب بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003.

لقد دوزن الفنان رؤيته إلى مدينته بإيقاع سلّم موسيقي من خلال سلسلة من الرسوم التي حاول من خلالها أن يرسم مزاج الناس الذين أحبهم، من غير أن يخضع لذائقتهم.

بغدادياته كانت نوعا من الإبحار في الأماكن التي يجهلها العراقي من روحه. أليس الفن نوعا من الكشف؟ لقد رسم سليم البغداديين، لكن ليس كما يرون أنفسهم في لحظة الخلخلة التي لم تفارق تاريخهم. لوحتاه “موسيقيون في الشارع” و”الشجرة القتيلة” تقتربان من الواقع، غير أنهما لا تكفان عن الحلم.

يعلّمنا الرسام من خلالهما أن هناك مساحة للحلم لا تزال ممكنة. في رسومه هناك شيء من بغداد التي لم يتعرّف عليها البغداديون. تلك هي بغداده التي اكتشفها من خلال الرسم. بغداديات الموسيقيّ الحالم هي ما تبقى من إرث مدينة، قد لا تكون موجودة في أيّ لحظة.

علق هنا