الدكتور طالب الجليلي يروي قصة اغنية (المكير)

بغداد- العراق اليوم:

شعر :زامل سعيد فتاح

لحنن: كمال السيد

أداء؛ يس خضر

كانت محطة القطار في مدينة الناصرية الى حد الخمسينات والستينات تقع قرب اثار أور التاريخية والتي تبعد 15 كم عن الناصرية . كان القطار النازل من بغداد الى البصرة وبالعكس يمر على تلك المحطة ويتوقف فيها.. في اور التي اطلق المؤرخون عليها ( أور المقير)!! ويعود السبب في تلك التسمية (المقير) هو ان البناء في ذلك العصر وحسب ما هو لا زال قائما يعتمد على مادة ( القير) بدلا من الأسمنت لربط قطع الطابوق المستعمل في البناء .. رقد احتفضت اثار تلك البنايات بما فيها القصر الملكي والزقورة التاريخية وباقي البنايات .. كان القير يجلب في العصر السومرية آنذاك بالسفن من مدينة هيت التاريخية عبر نهر الفرات الى اور التي كانت تقع آنذاك على ساحل الخليج العربي قبل ان ينحسر جنوبا في العصور التي تلت، وهذا ما تثبته طبيعة الارض الرملية التي تحد مدينة ( اور المقير) من الغرب حيث شيدت محطة القطار وهذا هو الرمل الذي أشار له الشاعر زامل سعيد فتاح في قصيدته ( أوعلة الرمله الرمله الرمله .. او ضوا الكمره الكمره). سماها العامة با المكير ..من (اور المقير) اختصارا وسار عليها الاسم هكذا ...

كان المسافرون ينقلون من مدينة الناصرية الى محطة القطار في ( المكير) بواسطة قطار صغير جدا مكون من عربة واحدة او اثنين تسحبهما قاطرة ويسمى هذا القطار بز( القاطرة)!! وتنطلق من محطة فرعية صغيرة في داخل مدينة الناصرية بالقرب من الجسر القديم والى الشرق منه ...

يظل المسافرون ينتظرون قدوم القطار القادم من بغداد والذي سيصل ليلا في العاشرة او الحادية عشر او اكثر ليلا !! وحسب المزاج والظروف وما عرف عندنا من عدم احترام الموعد والوقت ... طبعا في تلك المحطة الفقيرة التي شيدها الانكليز إبان الحرب العالمية الاولى لخدمة قواته في احتلالها العوراق ظلت هكذا في ذلك الزمن الى حد السبعينات !! في تلك المحطة يفترش المسافرون الارض (الرملية) في مناخ بارد في عز الصيف !! وعيونهم تراقب عبر سكة الحديد وامتدادها بروز ضوء القطار القادم بمزيد من الصبر والامل ... هناك حيث يصور الشاعر زامل قصة حقيقية ( قد يكون )مر بها وعاشها وهو ينتظر بعيدا عن حبيبته المسافرة الى البصرة وهو يراقبها ويتصور انه يجلس معها ويناغيها !! .... يعود الشاعر الى الناصرية وهو يتابع سير القطار النازل في عقله وروحه .. يصل المدينة ويعبر الجسر ومن غلى قمته يطل على كورنيش الناصرية الشرقي حيث شاطئ الفرات الذي تطل عليه وتراقبه بحنان اشجار النخيل الباسقة وهي تظلل الساحل بسعفها الاخضر الذي يرقص على مر الدهور.. هنا يتذكر الشاعر ملتقى العوائل والعشاق على ذلك الشاطئ حيث درج الجميع على قضاء العصر والأماسي في صيف المدينة وربيعها ..

اعود هنا لما قاله الباحث الدكتور عدنان ابراهيم عن قيمة الأدب الذي يهز المشاعر ، ويحاكي دواخل القاريء ..!

ان ما ميز ديستويفسكي وغوغول وتولستوي هو انك حين تقرأ لهم ، تشعر ان الكاتب يكتب عنك ، وعنك بالذات !! بل يصل به ، احيانا ان يبكيك او يضحكك وفي احيان اخرى تشعر وكأنه يستل منك اسرارا خاصة بك لم تبوح يوما بها لاحد غيرك !!

لا اغالي ان قلت بان زامل سعيد فتاح كان في معظم قصائده وبالأخص قصيدة ( المكير ) ، كاد ان يكون من تلامذة ديستويفسكي وغوغول ...! انه يتكلم عنك وباسمك وان اختلفت الجغرافيا والانتمائات !! لكنه يذيب بشعره كل الحواجز ويجعل منه كلاما ينطلق منك بالذات ..

لقد استطاع ان يطوع مفردات بسيطة لكنها تدخل الأعماق عنوة .. ؛ ( اودعنّه) ، ( كل كِتِر مني ) انهدم !! وكأنه يصف قطعة من جرف النهر لم تتحمل الثقل فانهدمت نحو قاع النهر !!.. راح الربل وانا اوياه ( يِعت بيه .. وعتنّه)!.. ( ولَك ياريل لا ، تكعر،!!) .. غفى اونام ( اوهدل شعره!!)... ثم ال( يراويني النهر موكاف حبنا !) ..

ويختتمها بفطام طفل وهو يشكو من الصبر القادم ..!

قام بتلحين تلم القصيدة التي ملؤها الشجن المرحوم كمال السيد ابن الناصرية أيضاً وملحنها المبدع والذي توفي في غربته المفروضة في كوبنهاغن عاصمة الدانمارك عام 2001 ، حيث شرد معظم مبدعي العراق ومناضليه في نهاية السبعينات هروبا ...

في لحن الاغنية يلاحظ المتتبع كيف صور السيد قدوم القطار وتوقفه وحركته وصراخه ورحيله في ايقاعات رائعة وانسجام غريب بين الات العزف واداء العازفين .. حتى وكأنك تسمع دوران عجلات القطار التي تروح تزيد من سرعتها ، و ( كعير!) صافرته وكأنه صراخ فيل وهو يبتعد !! بل قام بترجمة موسيقية حزينة لحالة الشجن واجنرار الذكريات التي كتبها الشاعر القادم من مدينة الشطرة مهد المبدعين والشعراء والمفكرين ومصنع المناضلين والمفكرين .. الشطرة ؛ حاضنة التاريخ بكل حضارة ( لجش) وملكها ( جوديو) وبالقرب منها ( لإرسا) و ( أسن) مدن حيث كانت ( سلالات و دويلات المدن) في اول انبثاق للحضارة .. هنا كتب اول حرف في التاريخ ... هنا في مدينة لجش والتي تبعد بضعة كيلومترات عن الشطرة ....

طالب الجليلي

16 أيلول 2016

علق هنا