ماذا كتب الشاعر والصحفي عدنان الفضلي عن (المعيدي) فالح حسون الدراجي ؟

بغداد- العراق اليوم:

فالح الذي يلوّح للندى بسبابتيه

عدنان الفضلي

مع أني عشت معه الغربتين، غربة الداخل والخارج، لكن لم يدر بخلدي يوماً أن أسأل أو أبحث عن تارخ تولده، فقد فوجئت به اليوم وهو يعلن عن سبعة عقود ليست كلها عجافاً من عمره قد (ولّن)، فاليوم عرفت أن صديقي البهيّ الشاعر العذب فالح حسون الدراجي قد غادر السبعين بخطوة أولى نحو عقده الجديد الذي أتمناه أن يكون مئوياً، وبعدها سنطمع حتماً.

لا أدري ماذا أكتب لك صديقي جداً .. وحتماً لا وقت للقصيدة المتثائبة أو المقال الذي قد ينتابه إنشاء عفوي، لذلك سأعيش الإنثيال بصيغة الشهادة عسى أن أوفيك بعض ما فيك .. أنت الذي علمتنا السلاسة عبر قصائد تلوّح للندى بسبابتين .

بما هو أنثيال وليس قصيدة أو مقالاً.. أو بمعنى انه انثيال جاء بصيغة شهادة.. كتبته لأحتفي بصديق لي احترمه جداً وأعتز به كثيراً، لكونه يصرّ على عراقيته ويثبت لي في كل مرة أنه ابن ملح سومري عتيق.. ووريث وصايا جدته الميسانية جداً، فاينما ذهبت لقراءة ما يكتب أجده يحتفي بالعراق، ويواصل التطريز له ليلبسه أناقة المعدان في أعراسهم وخبلهم.. المعدان السومريون الميسانيون المعطرون برائحة جنوب الله.

  أتحدث عن هذا الشاعر الذي دخل عقده الثامن وهو مازال يتأثر بسحنة الألم التي تجتاح تضاريس الوطن من أقصى جنوبه الى أقصى شماله، فمن يتعمق في رصد مدوناته وسبر اغوار قصائده سيجد فيه انساناً، يتسكع في شتى بقاع الوجع العراقي حاملاً كوفية والده، يلامس بها خاصرات الوطن، علّه يزيل عنها اثر الخناجر، ففي مجازات نصه يقفز الوطن الأخضر ليعبر ضفة الهم محتفياً بأمل مازال يراود صدغيه، وفي تجلياته الشعرية ثمة ثلج يشبه شيبة رأسه الموغلة بالبياض وإن دهنها بدهان مظلم.

 هو وريث وصايا المعدان وقيصرهم شعرياً، وصاحب قصر الشعر حين يراوغ ما بين سومريته وتبغدده، ودائماً ما يلبس رعية قصره من المتلقين والمتذوقين للجمال المرصع بندى (كميت) رداء الشجن المصحوب ببحة (مسعودة) و(داخل حسن).

  فالح حسون الدراجي يجيد العوم في أنهار العراق المجنونة لذلك نراه يرافق مجرى جميع تلك الانهار، فتارة نراه قريباً من (طينات) العمارة الطافحات باللذة، ويخطف بصره سارقاً وميضاً يشعّ من زقورة أور، وتارة نلمح طيفه يمرق باتجاه شط العرب، وفي انتقالاته لم يترك (فالح) بقعة يابسة الا وترك فيها أثراً يتبعه عبره الشعراء من دون ان يرافقهم الغاوون، ففي خلجته المخبأة ابداً بين سنديانة كردستانية وأخرى، نجد أحلام الفقراء تتحول الى نوتة شعرية ترسمها أنامله بحرفة المتيقن من قطرات مطره، فهو ومن خلال انثيالات روحه يضمّد العثرات بأكمام قصائده، ويرش عليها ماء السعادة الذي يحمله بدلو الصدق.

   فالح في غربته صار خيمة متنقلة، تحرص على استضافة كل من سحبت منه إجازة الإقامة في وطن الشعراء، فهو الباحث دوماً في صناديق الدنيا عن أصدقاء منفيين مزّقت الغربة قمصان إنتمائهم من قبل ومن دبر، فيعمد الى توزيع كسوة من حروف يغلف بها أجساد اولئك الأصدقاء، ومن خلال خطوات بحثه تلك نصل نحن ايضاً الى مناطق اشتغال لم نكن لنعرفها لولا كساء هذا المعيدي المعجون برائحة الوطن.

   فالح حسون الدراجي ظلمه كثيرون وأنصفه كثيرون أيضاً فالإنصاف مثل الحسنات تقاس بعشرة أضعافها.

 (ابو روزا) ترنيمة حزن مرمية في طريق شحّ عدد سالكيه، فصار موحشاً يكتنفه ظلام لن يتبدد من دون بث شحنة من وفاء عبر منظومة الرجل السومري المعمّد بماء فراتين، يسايرانه اينما شخص بصره الثاقب لكرات الصمت.

سبعون ألف تحية من سومري مثلك، أرسلها وبها طعم مسقط رأس الكون (ناصريتك) التي تتبادل معها الحب دوماً، وسبعون ألف شمعة لن تذوب وتبقى تضيء حتى يشاء الذي يمتلك المشيئة العادلة، وكل عام وأنت للقلب أقرب أيها الذي تلوّح للندى بسبابتيك.

علق هنا