الوزير محمد الدراجي يكشف فضائح عقود التراخيص النفطية، والمتسبب بعرقلة اكبر مشروع في البصرة

بغداد- العراق اليوم:

الحلقة العاشرة

من المتعارف عليه في سياقات العمل الإداري، هو النسغ الصاعد من الأدنى في المرتبة الوظيفية إلى الأعلى مرتبة، ويكون على شكل مقترحات او توصيات أو توضيحات أو مقدمات قرار وعكسه النسغ النازل، متمثلا بالأوامر والقرارات الصادرة من مركز القرار إلى المراتب الإدارية الأدنى التي تتولى تنفيذ هذه القرارات .

 عادة ما تمر هذه السياقات بسلسلة من الحلقات الإدارية  التي تتولى تهيئة أو تنفيذ القرارات الحكومية وبالاتجاهين الصاعد والنازل.

استطاع الكيان الموازي التغلغل بين هذه الحلقات، وبعدة مستويات لتخريب مشاريع بناء الدولة، وتضليل القيادات الحكومية، وصولا لمجلس الوزراء الذي يعتبر أعلى سلطة تنفيذية في الدولة ، ومن جانب أخر لعرقلة تنفيذ القرارات التي يصدرها مجلس الوزراء ، وبالتالي إيقاف عجلة بناء الدولة والوصول إلى حالة الفشل .

يصاحب ذلك ضعف في أروقة مجلس الوزراء، نتيجة عدم الانسجام ،وعدم وجود كفاءات صاحبة سلطة وقوة لفرض تنفيذ قرارات المجلس،  او جهاز استشاري فعّال للرد فنيا وإداريا على ما يتم اقتراحه من قبل الأجهزة الحكومية في الوزارات على مجلس الوزراء .

وسأطرح على القارئ الكريم ، بعض الأمثلة على هذه الاختراقات  وخصوصا في القرارات التي تتعلق بالنفط والاقتصاد، حيث ان "الدولة العميقة" ركزت على إفشال التجربة الحكومية من خلال الوتر الاقتصادي .

حيث ان الحالة الاقتصادية المتردية للبلد يكون تأثيرها السلبي السياسي والمجتمعي والشعبي أكثر بكثير من تداعيات الوضع الأمني او العسكري،  كما سنناقش في جزء اخر من هذا الكتاب كيف تحول العراق بفضل هذه الاختراقات الى دكان فاشل لبيع النفط ، وليس دولة نفطية لها اقتصاد محترم.

 من هذه الأمثلة كان هناك قرار لمجلس الوزراء تم اتخاذه بعد مناقشات كثيرة داخل مجلس الوزراء يتضمن الموافقة على تخفيض سعر الوقود الذي يتم تجهيزه للمصانع بسبب.

انخفاض أسعار النفط العالمية، وهذا يشكل دعم للصناعة الوطنية، سواء في القطاع الخاص او العام خصوصا إن الصناعة تعتبر الركيزة الأساسية لاقتصاد اي بلد ، ونلاحظ ان البلدان المجاورة للعراق تدعم صناعتها بشتى الطرق للحفاظ على اقتصادها، وتدعم تصدير بضائعها خصوصا للعراق، الذي أمسى سوقا استهلاكيا لصناعة وزراعة البلدان المجاورة، بسبب السياسة الاقتصادية المتخبطة، وتلاعب إتباع الكيان الموازي بسوق وحكومة وإعلام العراق.

بعد إن تم صدور القرار كان من المفترض ان تقوم الوزارة المعنية، بتجهيز الوقود بتنفيذه بعد إن يصل إلى مكتب الوزير المعني وبالفعل وصل الكتاب الرسمي مرفقا معه القرار الصادر من مجلس الوزراء فقام الوزير المعني بتحويله حسب السياق الإداري المتبع إلى وكيل الوزارة المعني،  الذي قام بدوره في الدورة البيروقراطية الورقية وحول الكتاب إلى الحلقة الأدنى وهو المدير العام المسؤول عن تجهيز الوقود الذي أدى دوره وقام بتحويل الكتاب إلى معاونه ليقوم بتنفيذ مضمون القرار أو على الأقل إن يحوّله إلى الأقسام المعنية بتنفيذه.

لكن هنا توقفت الحياة بالنسبة لهذا القرار المهم للاقتصاد العراقي، فقد كتب معاون المدير العام رأياً مخالفاً للقرار بكل وقاحة، وكأنه الوحيد الذي يلعب دور الحريص على الوطن والآخرين من وزراء ووكلاء ومدراء كلهم لا يفقهون شيئا، ورفع مطالعة إلى مديره العام مفادها انه غير مقتنع بهذا القرار !

إنما رأيه إن يتم بيع الوقود في السوق وتحصيل أموال تدفع إلى وزارة المالية ووزارة المالية تقوم بتخصيص أموال ضمن الموازنة العامة كدعم للمصانع ومن ثم تقوم المصانع بشراء الوقود مباشرةً من السوق !!!!

من الواضح إن هذا هو أسلوب من أساليب الدولة الخفية لعرقلة بناء الدولة العراقية، حيث إن أتباعها يغلفون سُم تخريب الدولة بعسلِ الحفاظ على المصلحة العامة، وهي من أفعالهم براء.

المؤسف في الأمر إن المدير العام الذي كان من المفروض إن يأمر بتنفيذ الأمر، قام بدور ساعي بريد لا أكثر، وقام برفع مطالعة معاونه إلى الوكيل المختص الذي بدوره رفعها إلى الوزير المعني .

للأسف في ظل الظروف السائدة وضعف الوزراء، من خلال الضغط الإعلامي ووضعهم دائما في موضع الشبهات، لكي لا يجرأ أحد منهم   على اتخاذ إي قرار وإلا يبدأ عليهم هجوم كاسح واتهامات ما انزل الله بها من سلطان ، فقد قام الوزير المعني برفعها إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراءـ لإعادة مناقشة القرار وقد ضاعت المسالة في أروقة مجلس الوزراء ، ولم تعرض مرة أخرى ولم يتم تنفيذ الأمرـ وانتصر إتباع الدولة الخفية، ونجحوا في الإمعان بتحطيم الصناعة الوطنية، من خلال حلقة بسيطة في الدولة قلبت موازين وقرارات أعلى سلطة تنفيذية في الدولة

في مثال أخر توقف فيه لأكثر من سنتين ولا يزال متوقفا حتى كتابة هذه السطور اكبر مشروع إستراتيجي للبلد، يتمثل بمشاركة استثمارية بين العراق، واكبر شركة عالمية في صناعة النفط لإنشاء مجمع للصناعات الكيمياوية في محافظة البصرة.

 حيث يبلغ الاستثمار الخارجي  المقترح بحدود ١١ مليار دولار، وتشغيل اكثر من ١٠ آلاف عامل محلي، وإنتاج ما يكفي لاستهلاك البلد وتصدير الباقي من المنتجات البتروكيمياوية التي تستهلك مليارات الدولارت من العملة الصعبة، جراء استيرادها للاستهلاك المحلي، اي ان هذا المشروع الجبار سيجلب استثمار خارجي للبلد، وسيشغل أيدي عاملة ويقلل الاستيراد،  وهذه العناصر الثلاث هي أهم أركان النمو والازدهار الاقتصادي للبلد .

 لكن ( هذه  الكلمة السحرية  بيد الدولة الخفية لتخريب اي منجز للحكومة في إطار بناء الدولة) بدأت أذرع "الدولة الخفية" تضرب يميناً وشمالا،  لتخريب هذا الموضوع وواجه المشروع عراقيل عديدة، أبرزها رفض إدارة عامة في إحدى الوزارات تسليم قطعة الأرض المخصصة للمشروع، بحجة أنها مخصصة لمستثمر عن طريق هيئة الاستثمار، وكأن هناك مشروع أفضل استثماريا من بناء مجمع للبتروكيمياويات، ولكن الغرض كان واضحا لإيصال رسالة للشركة العالمية إن لا تتجرأ وتنفذ هكذا مشروع.

 من جهة أخرى امتنعت الإدارة المعنية، بتحديد  سعر الغاز الطبيعي من خلال معادلة سعرية، تعتمد على سعر الغاز الطبيعي عالميا، وماطلت في إعطاء النتيجة بلا سبب مقنع، وانما تحججت بأسباب لا علاقة لها بأصل الموضوع ، من قبيل لماذا لم  تشترك الوزارة التي تعمل فيها هذه الإدارة بالتفاوض! وتارة تؤجل التفاوض مع الشركة لأسباب غير معروفة . وغيرها من المعرقلات، التي اضطرت القائمين على المشروع لرفع الامر إلى اللجنة الوزارية للطاقة، التي تعتبر اعلى سلطة تنفيذية في مجال الطاقة في البلد ، وقررت تسهيل إجراءات تنفيذ المشروع، واعطت أوامرها بحل هذه المعرقلات، لكن لا حياة لمن تنادي! في ظل التنظيم المحكم لأذرع الكيان الموازي، التي لا تفتأ بإيقاف عجلة إي إجراء او مشروع، أو فكرة لبناء دولة حقيقية في العراق.

وفي إطار آخر من الإعمال الهادمة لبناء الدولة، طريقة احتساب تكاليف ومصاريف الشركات النفطية، التي تعمل في إطار جولة التراخيص، حيث ان التكلفة العالية، لهذه الشركات التي تتراوح بين ١٠-١٩ دولار للبرميل الواحد، حسب نوع العقد، ومكان الاستخراج، وقد تم احتساب معدل تكلفة لجميع البراميل خلال الثلاث سنوات الماضية استقر عند ١١ دولار للبرميل الواحد، ونسبة هذا المبلغ كبيرة عندما يكون سعر النفط ٥٠ دولار للبرميل الواحد، فتمثل ٢٢٪ من سعر البرميل !!

هذه المبالغ تأتي من مصاريف هذه الشركات، التي على الحكومة العراقية،  دفعها لها زائداً الأجرة المتفق عليها، كخدمة استخراج، لذلك فان هذه الشركات، عندما تدفع مصاريف، وكلف عملها، تكون كريمة جدا لدرجة أنها تستأجر سيارات مصفحة لبعض المتنفذين في البلد،  بمبلغ ١٠ آلاف دولار شهريا! وغيرها من المصاريف غير المسيطر عليها، والتي تمر من خلال اللجنة المشتركة بين الشركة الأجنبية، والوزارة المعنية، وهناك بعض المصاريف التي تغطي بعض المشاريع تكون خارج صلاحية هذه اللجان، فيتم رفعها إلى مجلس الوزراء لكي يتم المصادقة عليها .

وهنا بيت القصيد، فقد تم تقديم مسودة قرار للمصادقة، على مشروع بقيمة أكثر من ٢٥٠ مليون دولار، لبناء مجمع سكني للعاملين في إحدى الشركات النفطية الأجنبية، التي تعمل في عقود الخدمة،  لأحد الحقول في جنوب العراق، وبحكم خبرتي الفنية، احتسبت عدد الأمتار المربعة للبناء في المشروع ، وقمت بعملية رياضيات، لاحتساب سعر المتر المربع الواحد من البناء، فتبين ان كلفة المتر المربع الواحد من البناء،  تصل الى تسعة آلاف دولار، بينما كان السعر السائد حينها لا يتجاوز سبعمائة دولار للمتر المربع،  بمعنى ان السعر الحقيقي السائد يمثل ٧٪ من السعر المقدم من قبل الشركة!!!

اعترضت حينها مع مجموعة من الزملاء، وطالبنا إن يتم إعادة النظر بالموضوع، كون الأسعار مبالغ فيها جدا، وبالفعل تم سحب الموضوع بأمر رئيس مجلس الوزراء، لغرض مراجعته وتدقيقه ، ولكن شاءت الصدف ان لا أتواجد في اجتماع مجلس الوزراء بعد أسبوعين من تاريخ الاجتماع الذي تم عرض الموضوع فيه ، فما كان من أيادي الدولة الخفية إلا إن تعيد عرضه وتقوم بتضليل المجلس بالقول إن الشركة واللجنة قاموا بمراجعة الأسعار وتم تخفيض ٤٠٪ من مبلغ العقد ( اي انه أصبح سعر المتر المربع تقريبا خمسة آلاف دولار)، وهو أيضا مبلغ مبالغ فيه جدا،  لكن للأسف انطلى الأمر، وتمت مصادقة المشروع!!!

من المواضيع التي يجب ان يسجلها التاريخ، هو مؤامرة تهديم المدارس، باسم مشروع بناء المدارس، فقد اتخذ مجلس الوزراء قرارا خاطئاً بإحالة المدارس الى شركات عامة، مع شركاء ودفع مبالغ تصل الى ٦٠٪ مقدماً، وماعدا بعض شركات الأعمار والإسكان  المختصة، فان باقي الشركات العامة لا علاقة لها بمواضيع البناء او تقنياته، وخصوصا الشركات الصناعية، وهذا موضوع فيه تفاصيل كثيرة، لكن المثير للانتباه هو ما حصل مع إحدى الشركات التابعة لوزارة الأعمار والإسكان.

فعلى الرغم من إن جميع شركات الوزارة المكلفة بالموضوع أنجزت مهماتها في جميع المواقع المهيئة من قبل وزارة التربية، الا ان واحدة من هذه الشركات تعرضت لعملية احتيال ممكن ان تكون مثال العمليات العالمية في هذا الاتجاه،  فقد جاءتها شركة تملك معامل بناء جاهز ضخمة في إحدى الدول المجاورة، وعقدت معها عقد شراكةـ يقع ضمن صلاحيات مجلس إدارتها، وتم استلام مبلغ الدفعة المقدمة من وزارة التربية، وإيداعه بمصرف مقترح من قبل الشريك كونه سهل عملية إعطاء خطابات الضمان، وللأسف تبين ان صاحب الشركة، هو نفسه صاحب البنك، وتم تهديم المدارس ولم تتم عملية البناء، لان المصرف لا يدفع اي مبلغ للشركة الحكومية !! والشركة الخاصة لا تعمل !!

 المهم في الأمر هو إني كوزير قمت باستخدام صلاحيتي بالأمر بإنهاء وفسخ عقد الشراكة، فقامت الشركة بإجراء قانوني بإقامة دعوى ضد قراري،  وللأسف كسبت الدعوى، وطلبت من مجلس الوزراء، إن يوجه الأمانة العامة لمجلس الوزراء لدعم الفريق القانوني في الوزارة، لتقديم طلب استئناف الحكم وتم خسارة الاستئناف أيضا، وتم إلغاء قراري الإداري بأمر قضائي، ولم استسلم بل طلبت من وزارة التربية، ان يتم فسخ العقد الأصلي، لكن المفاجأة كمنت عندما صدر قرار من مجلس الوزراء ، مبني على معلومات قانونية، مفاده انه يجب الالتزام بأمر القضاء والإذعان لعقد الشراكة، ويعتبر قرار مجلس الوزراء أعلى من قراري كوزير!

كل هذا كان بتنسيق من أقطاب الدولة الخفية المنتشرة في أروقة الدولة اللا دولة .

لم تُبنَ  هذه المدارس لحد ألان، وجلس الأشرار يشربون نخب افتراش أبنائنا الطلبة الأرض في هذه المناطق الفقيرة، والى الله المشتكى.

إن من أهم أسباب التخبط في القرارات، واختراق الدولة الخفية، عدم الانسجام بين أعضاء المجلس، بسبب المحاصصة الاثنية والمذهبية والمصالح الخاصة،  فليس من المعقول إن يقوم وزير معين بالاستقتال في عدم شراء أحذية للمقاتلين ، بل ويخرج بمؤتمرات إعلامية،  لضرب الصناعة الوطنية،  وما هو تفسير هذا التصرف؟؟ وان يقوم اخر بالاجتهاد في مواضيع تخص الاقتصاد الكلي للبلد، من اجل مكاسب ضيقة لموظفين في وزارته !!

هذا السبب مرتبط بسبب اكبر، وهو عدم وجود آلية صحيحة،  لتهيئة القرارات ومراجعتها قبل عرضها على مجلس الوزراء ، وَمِمَّا يستغرب له ان لمجلس الوزراء، وحسب نظامه الداخلي، آلاف الموظفين حيث ان الأمانة العامة، ومكتب رئيس الوزراء، ومكاتب نوابه، ان وجدوا تحتوي على مجاميع كبيرة،  من الأقسام والمديريات والمستشارين، إضافة  لذلك هيئة المستشارين الخاصة، التي نص عليها النظام الداخلي ان تكون مكونة من ١٠ مستشارين ذوي الخبرة والكفاءة والنتاج العلمي  المتميز في مجال اختصاصهم !

لم نر طيلة وجودنا ما يترجم هذا النص خلال عمل مجلس الوزراء . ان هذا الترهل والتحاصص في أروقة مجلس الوزراء، والجهات الساندة له ـ ليس فقط له تأثير سلبي على عمل المجلس وحسب، بل انه يجعل السبل مشرعه لأدوات الدولة الخفية، ان تخترق هذه الأروقة، وتنفذ أجندتها التخريبية من خلال هذا الاختراق.

علق هنا