كيف توحدت السلطات الثلاث في "إيران الجديدة" تحت زعامة المرشد؟

عبد الباري عطوان

بانتِخاب السيّد إبراهيم رئيسي رئيسًا للجُمهوريّة الإيرانيّة خلفًا “للإصلاحي” حسن روحاني الذي أكمل مُدَّتيه في الحُكم، تَدخُل إيران مرحلةً جديدةً عُنوانها الأبرز عودة الجناح “الإسلامي الثّوري” إلى سُدَّة الحُكم فيها، وبصُورةٍ أكثر قوّةً من أيّ وقتٍ مضى، فهذه هي المرّة الأولى، ومُنذ وفاة الإمام السيّد روح الله الخميني، تتوحَّد السّلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة الثّلاث في يد هذا الجناح، تحت الإشراف المُباشِر للسيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى.

وإذا أردنا أن نَعرِف مدى أهميّة وخُطورة هذا الانتِخاب، لرجلٍ من آل البيت، يتّسم بالقُوّة والصّلابة، وينحاز للفُقراء والمُهمَّشين، وينتمي إلى نُخبةِ مشهد الدينيّة، ومَعروفٌ عنه مُحاربته للفساد والفاسدين، ما علينا إلا رصد حالة الهلع التي تسود حاليًّا دولة الاحتِلال الإسرائيلي، ورُدود فِعل حُكومتها والنّخبة السياسيّة والإعلاميّة فيها بعد الدّقيقة الأُولى من إعلان فوزه.

فالإسرائيليّون، حُكومةً وشعبًا، لديهم يقينٌ راسِخ بأنّ الرئيس القادم الذي سيتولّى مهامه في مُنتَصف شهر آب (أغسطس) قادم، سيُعَزِّز القُدرات العسكريّة الإيرانيّة في مِنطقة الشّرق الأوسط، وربّما يجعل من بلاده عُضوًا في النّادي الدّولي النّووي قريبًا جدًّا.

الرئيس الإيراني الجديد الذي يعتقد الكثيرون داخل إيران وخارجها، أنّ السيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى يُهيّئه ليكون خليفته، وهو اعتِقادٌ صحيح، يُواجِه ثلاثة تحدّيات رئيسيّة عاجلة، بعد إكمال تشكيله لسُلطته التنفيذيّة، أيّ الحُكومة التي سيَتَزعّمها:

 

    أوّلًا: مُواجهة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تُواجهها بلاده بسبب العُقوبات الأمريكيّة.

    ثانيًا: المُفاوضات مع الولايات المتحدة والدّول الخمس العُظمى الأخرى، المُتَعلِّقة بإحياء الاتّفاق النّووي الإيراني، وكيفيّة حسمها سلبًا أو إيجابًا.

    ثالثًا: العلاقات مع دُوَل الجِوار الخليجي، ومكانة إيران الإقليميّة وفي التّحالفات الدوليّة الجديدة، وخاصّةً في المحور الروسي الصيني الكوري الشمالي بشقّيه العسكري والاقتصادي.

 

هذه التحدّيات الثّلاثة مُترابطة، وكُل منها يُؤدِّي إلى الآخَر، ويتداخل معه، ولا يُمكِن فصلها عن بعضها البعض، والأمر المُؤكَّد أنّ السيّد رئيسي الذي يُعتَبر من الشخصيّات الأكثر قُربًا للمُرشد الأعلى يملك حاليًّا خريطة طريق واضحة للتّعاطي معها، وهُويّة الطّاقم الوِزاري “الثّوري” الذي سيُساعِد في هذا المِضمار، ففوزه لم يَكُن صُدفَةً وإنّما بعد عمليّة إعداد استمرّت سنوات.

لا نُجادِل مُطلقًا بأنّ الإمام خامنئي المُرشد الأعلى هو صاحِب القرار في إيران، ولا نَكشِف سِرًّا عندما نقول إنّه لم يَكُن مُرتاحًا لإدارة الرئيس روحاني وفريقه لشُؤون البِلاد، طِوال السّنوات الثّماني الماضية، بعد أن تأكّد فشل وعودها في تحقيق الرّخاء الاقتِصادي للمُواطن الإيراني وتخفيف مُعاناته، عبر بوّابة الاتّفاق النووي مع الولايات المتحدة والدّول الكُبرى، وزادَ الطّين بلّة انسِحاب إدارة الرئيس السّابق دونالد ترامب منه، عام 2018 بضُغوطٍ إسرائيليّة، ولهذا سارع بتَصحيح هذا الخطأ الاستِراتيجي بتهيئة الفُرص للسيّد رئيسي للفوز في الانتِخابات الرئاسيّة، وتأجيل البتّ في التّنازلات الضّخمة التي تقدّمت بها إدارة الرئيس جو بايدن في مُفاوضات فيينا النوويّة، حتى تولّي الرئيس الإيراني الجديد وفريقه سُدَّة الحُكم.

إيران الجديدة” التي ستبدأ هُويّتها في التّبلور في الأشهر القليلة القادمة، إن لم تَكُن قد بدأت فِعلًا في التّبلور مُنذ الدّقيقة الأُولى، التي جرى فيها الإعلان عن فوز السيّد رئيسي، ستكون مُختلفةً كُلِّيًّا عن إيران التي عرفناها في الرّبع قرن الماضي، وستكون أقرب إلى مرحلة الينابيع الأُولى للثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة التي فجّرها الإمام الخميني، مع فارقٍ أساسيّ وهو أنّ “إيران الجديدة” باتت أكثر قوّةً وتأثيرًا عسكريًّا وسياسيًّا على الصّعيدين الإقليمي والدّولي حاليًّا، لأنّها تَستنِد إلى صناعة عسكريّة ذاتيّة، وترسانة هائلة من الصّواريخ والطّائرات المُسيّرة المُتطوِّرة جدًّا، علاوةً على أذرع عسكريّة حليفة ضاربة في أكثر من دولة شرق أوسطيّة مِثل العِراق ولبنان واليمن وقِطاع غزّة.

وجود السيّد رئيسي على قمّة السّلطة التنفيذيّة في إيران، مدعومًا من المُرشد الأعلى، يعني إعادة إيران إلى مرحلة ما قبل توقيع الاتّفاق النووي، وتعزيز موقفها التّفاوضي، في مُفاوضات فيينا، في حالِ اختارت الحل السّلمي للأزمة النوويّة مع الغرب، لأنّ وجود رئيسي “رئيس ثوري مُحافظ” يعني في حدّ ذاته ورقة ضغط قويّة على الولايات المتحدة لتقديم تنازلات أضخم من مسألة رفع العُقوبات كاملة من بينها الاعتِراف بمكانتها الإقليميّة، خاصّةً بعد قرارها الانسِحاب من الشّرق الأوسط، للتّركيز على الخطر الصّيني المُتصاعِد في شرق آسيا، ونقل منظوماتها الدفاعيّة الصّاروخيّة إلى قواعدها هُناك.

نكاد نَجزِم بأنّ الآمال الأمريكيّة المُتصاعدة بالتَّوصُّل إلى اتّفاقٍ نوويّ قبل تولّي السيّد رئيسي مهام منصبه في آب (أغسطس) المُقبل شِبه معدومة، لأنّ صاحب القرار الإيراني الأعلى لا يُمكِن أن يُقَدِّم هذا الإنجاز هديّة للرئيس الإيراني “الفاشِل” روحاني الذي قد يذهب إلى المُعتَقل حيث هُناك نوايا واضحة في هذا الصَّدد لوجود قضيّة على وشك أن تُطرَح أمام القضاء، والأمر الآخَر الأكثر أهميّةً، أنّ إيران باتت وبعد رفع نسبة التّخصيب لليورانيوم إلى أكثر من 62 بالمئة على حافّة امتِلاك قنبلة نوويّة إن لم تَكُن قد امتلكتها فِعلًا، وتنتظر الوقت المُلائم لموعد إعلانها، ألمْ يَقُل أنطونيو بلينكن، وزير الخارجيّة الأمريكي، قبل خمسة أشهر إنّها على بُعد أسابيع من تحقيق هذا الإنجاز؟

إيران بعد الرئيس رئيسي هي غير إيران قبله، “إيران جديدة” مُختلفة كُلِّيًّا قادمة.. والأيّام بيننا.

علق هنا