تلاوين الأنساق المتفردة في السرد في قصص : إيقاعات الزمن الراقص

بغداد- العراق اليوم:

 

بقلم : عبدالهادي والي

 

عن منشورات إتحاد الكتاب العرب / دمشق – 2002 م ، صدرت للقاص العراقي ( علي السباعي ) مجموعته القصصية الموسومة : (( إيقاعات الزمن الراقص )) . تحتوي على قصص قصيرة ، وبعض القصص القصيرة جداً . هي على التوالي : إيقاعات الزمن الراقص / عرس في مقبرة / الخيول المتعبة لم تصل بعد / هكذا وجدت نفسي / طائر الهزار / قطار اسمه غاندي / ورقة / دم أخضر / آخر رغيف / صيد حديث / مظلومة / رجل أنيق / ورود الغابة / مملكة الغضب / بندقية الحاج مغني / النافذة / الأيادي المتعبة / ضريح الأمس ، ضريح اليوم / كلب / رياح / المدينة .

يبدأ السرد القصصي عادة ، من فعل يتنامى بأستمرار ، لتحقيق صيرورته ، من خلال نسيج القصة ، الذي تتعاضد فيه ثيمات متنوعة ، تسعى لتشكيل صورة مضمونية لحدث معين ، أو أستذكار لحالة راسخة ، في حركة توصيف ، لرصد أدق للعناصر والجزئيات المبثوثة ، في عالم غريب ، يعج بالمتناقضات . يتحاور فيه الشخوص مع كائنات غير بشرية ، حيث تلتئم مجموعة من المتضادات ، في جدل متواصل ، لتعكس فرادة الواقع وغرائبته . نلمح ذلك الالحاح الدائم ، لرصد عالم الموت والفقد ، بتأن يعكس حرفية أسلوبية ، وقدرة ظاهرة ، على تلوين الصورة القصصية بثيمات تبعث الحيرة ، وتجنح بالخيال بعيداً ، عبر إستلهام مفردات وعناصر غرائبية ، يمتليء بها الواقع . يغلب في قصص القاص العراقي علي السباعي ، الجانب الفكري ، وإشتعال الأسئلة حول المصير وفلسفة الحياة ، فهي قصص تزخر بالهم الجمعي ، الذي يفلسف الواقع ، ويبحث من خلال إشكالاته ، عن حلول له عبر طرح التساؤل الدائم ، حول معنى وجودنا ، ومصداقيته . حيث يتراجع الحدث غالباً في قصصه ، لتحل  محله أسئلة كونية ، تتبارى في جدل مستمر للبحث عن حلول تظل تعوم في عالم الكابوس والغرابة . تطالعنا القصة الثانية في المجموعة : ( عرس في مقبرة ) وهي ترصد مكاناً موحشاً : إمرأة في ثياب عرس ، تلج مقبرة موحشة ، حيث تتداخل المرئيات وتزدحم في دوامة من الصحو ، وغياب الوعي ، ليرسم القاص لنا من خلال ذلك الماخ ، واقعاً كالحلم تماماً : (( كنت أحسب أنني أعيش في عزلة موحشة ، كل ما في ينتمي إلى الماضي ، حتى أنفاسي فإنها تصدر عن الوحدة المتفردة بداخلي ، أكتشفت من يشاركني وحدتي ، أنظر إلى الشمس الغاربة ، كأنها قرص أحمر ملتهب ، شرخ حياتي إلى نصفين ، عزلة وخذلان هكذا . عندما أقوم بجولتي في تفتيش المقبرة خوفاً من عبث السراق ، إمراة في عقدها الرابع ، تلف حول وسطها عباءة ، بدا جسدها مترهلاً ، تسحب أنفاسها بصعوبة ،خزرتها قائلاً : ماذا تفعلين ؟ - أفزعتني إلا تراني أتزين لك في ليلة زفافنا )) .

نتابع من خلال السرد  رصداً لعالم الغياب والوحشة ، والإحساس العالي بالفقد ، يبرز كحالة تعويضية ، للخوض في كوابيس حلمية لا تنتهي . وفي قصة : ( هكذا وجدت نفسي ) . تبدأ القصة : (( شيء لا يصدق أن تجد نفسك ، تحدث حماراً مسكيناً ، يحاورك بكل طلاقة ، حيث تتجمع في ديوان السماء غيوم بيض ، تتصادم مع بعضها ، تتألف أضواؤها الفضية لامعة ، تخرج من جوفها غضباً مكبوتاً ، طوال سنين مضت . تساءل ( وجع ) بحدة :- كيف ؟ أجابه الحمار :- بتغيير ما بأنفسنا . بادره ( وجع ) متذكراً كلمات زوجته المتوفاة :- إنك تذكرني بزوجتي رحمها الله ، رغم فقرنا المدقع ، كانت تشد من أزري ، وتأخذ بيدي بقولها :- (( معك يداً بيد نصنع حياتنا الجديدة )) . كنت أجيبها ، وكان شيئاً قد هتف بداخلي :- (( أحقاً ترغبين بذلك ؟ وهل لديك القدرة على صنعها )) . لكنها تبتسم رغم حزنها الشديد وتقول لي :- (( نعم معك أملك قوة ليس لها حدود )) . يستغرب الحمار هذا الكلام ، وإذا به يسأل بسأم :- (( ياسيدي عم تتحدث ؟ )) . وهل في عالمكم شيء حقيقي ، أسمه : - الحب ؟ يضحك  ( وجع ) من جديد ويقول :- (( أجل ياحمار ! )) . لدينا شيء اسمه الحب  ، وينهق الحمار ، وقد ألم به وجع كلمات سيده . من خلال هذه الحوارية ندرك ما يعتري واقعنا من بؤس ، يتجلى بصورة أوضح من خلال جدل المتناقضات ، وحوار المتضادات ، حيث تتجمع جملة خصائص فنية ، تعكس درجة من الرهافة في التعامل الفني مع الحدث ، مع إنضباط لغوي محكم ، وقدرة واضحة في تلوين الجمل التعبيرية ، بطاقات شحن ، تجعلنا مشاركين وضالعين مع الحدث القصصي الذي يبرع القاص العراقي ( علي السباعي ) ، في رسم مشهديته ، بحرفية وتأن تشد المتلقي وتبعث فيه طاقة التواصل والأنغمار مع الجو السائد ، دون أي إحساس بالسأم أو الملل من إكمال المتابعة مع السرد القصصي الأخاذ . في قصة :- ( بندقية الحاج مغني )) يبرز الصراع فيها قوياً ، عبر إحتدام الأرادات والتمسك القوي بالزوجة المعشوقة الأخيرة للحاج مغني ، التي حاول الأبناء ان يختطفوها عنوة ، ويبعدونها عن أبيهم ، وأمام أصراره وذلك بإشهار بندقيته التي سعى ليحارب بها ، حتى لو أقتضى الأمر محاربة الأبناء العاقين الذين يحاولون أن ينتزعوا منه  ما يعشقه ويهواه بالقوة والإكراه ، وقبل ان تحدث المواجهة ! بين الأب وأبنائه ، يتدخل أحد الشيوخ ، ليفض النزاع مخاطباً أبن الحاج مغني :- (( أذهب يامطرود ، لإحضار زوجة أبيك ، لأنني سأحل القضية واتعهد بذلك أمام الجميع )) . وحين يسترد الحاج مغني حبيبته يخاطبها بقوله :- (( ها انذا الآن أمامك ياعزيزتي )) . فردت عليه برقة ولين ، ونشوتها عامرة بالحب :- (( ألهذا الحد تحبني ياحاج )) قال بكلمات دافئة :- (( كنت مستعداً لأن أقتطع جزءاً من الليل لأصنع لك عباءة تحميك من الأعين الحاقدة )) . يحاول القاص العراقي علي السباعي من خلال قصصه الأخرى ، إضاءة مناطق مختلفة من وقائع يعج بها الحاضر العرقي وما يمكن ان يوظفه من تجارب الماضي والتاريخ ، ليكشف من خلال رموزه وأسقاطاته المتعددة ، ما ينتاب الحاضر من أوجاع وإستلابات ، تسهم في تأزيم الفرد وزيادة عزلته ومعاناته ، التي تنبع من صراع دائم ، لا هوادة فيه ، مع مواضعات لا يمكن التحكم بها ، مساهماً عبر ذلك من إستقطاب صياغات جديدة ومتنوعة ، وأساليب في القص ، تمتح من تقنيات ، يكاد يتفرد بها القاص العربي المبدع علي السباعي ، موظفاً صياغاته الجديدة ، ليدفع بالقصة القصيرة ، إلى آفاق رحبة تتسع للأستزادة من روافد عميقة ، تدفع بالفن القصصي العراقي إلى فضاءات شاسعة ، أكثر أصالة وعمقاً ، عبر لغة غنية بالأستخدامات اللغوية ةالفنية مستعيرة طرائق جديدة ، واشكالاً متطورة ، تكتنز بالدلالات والايماءات التي تشد المتلقي إلى عوالمها المدهشة ، وإيقاعاتها المنتظمة ، ليسهم كل ذلك في عملية التوصيل والأمتاع .

علق هنا