أسرار عملية (فولاذ) التركية لاحتلال شمال العراق، من هو عمر سورتشي؟

بغداد- العراق اليوم:

يعيد "العراق اليوم " نشر مادة صحفية مهمة للكاتب محمد نورالدين، والمنشورة في 15/5/1995، في مجلة الوسط، والتي تكشف اسراراً خطيرة عن استمرار الأطماع التركية في محافظات عراقية شمال البلاد، واهمها الموصل، وكيف ان تركيا ممثلة بأعلى سلطاتها تواصل العمل، وتقتنص الفرص لتحقيق حلمها التاريخي بضم لوائي كركوك – الموصل اليها، نظراً للعقيدة التركية القائمة على عائدية هذه المناطق لنفوذها المتلاشي، ويظهر الكاتب محمد نور الدين عبر سرد وقائع و مقاربات و معلومات، الحماس التركي لاستغلال ضعف العراق في حرب احتلال الكويت لتنفيذ الحلم باجتياح الشمال العراقي، لولا معارضة سياسية وقفت بوجه الرئيس التركي الأسبق اوزال، لكن مسعى وهدف اوزال، بقي هدفاً للرئيس الذي تلاه ديميريل ، الذي نفذت القوات العسكرية التركية  في عهده عملية عسكرية شمال العراقي سميت حينها  "فولاذ" والذي اراد لها ان تكون احتلالاً نهائياً للشمال العراقي .

المقالة غنية ووافية سنعيد نشرها دون اي تغييرات او تعديلات للاطلاع.

 المحرر

 

مطالبة ديميريل بتعديل الحدود مع العراق: أنقرة تنكأ جروح الحرب العالمية الأولى

ما ورد على لسان الرئيس التركي سليمان ديميريل في الاول من أيار مايو الجاري، عن ضرورة "تعديل" الحدود العراقية - التركية، لأسباب امنية، واشارته الى أن الموصل "ما زالت تابعة لتركيا"، يعتبر سابقة لا مثيل لها في تاريخ تركيا الحديث، ويفتح علاقات انقرة الاقليمية على احتمالات قد تكون الاكثر حدة والاخطر منذ تأسيس الجمهورية التركية العام 1923.

وتمثل تصريحات ديميريل، عشية اعلان وزارة الخارجية التركية في 4 ايار الجاري، انسحاب آخر جندي تركي من شمال العراق، وبالتالي انتهاء عملية "فولاذ" العسكرية، مؤشراً دامغاً على بدء عملية "فولاذ سياسية" هائلة حجماً ومضاعفاتٍ، على المدييْن القصير والبعيد.

 ولم يعد ممكناً، بعد الآن، الحديث عن علامات استفهام، او تكهنات، او شائعات عن الموقف التركي من هذه المسألة، أو غيرها من المسائل ذات الصلة بالوضع الاقليمي لتركيا، وفي مقدمها مسألة المياه، والنزاع على بحر ايجه مع اليونان. وما ذكر في 5 أيار الجاري عن تنسيق في المواقف المتعلقة بمسألة "إعادة ترسيم الحدود"، بين ديميريل ورئيسة الحكومة تانسو تشيللر يعني، بكل بساطة ووضوح، "اعلان حرب" مفتوحة وشاملة من جانب انقرة على جيرانها.

لم تعد مسألة الموصل مجرد قضية عائدة للتاريخ والمؤرخين. والفارق بين ديميريل ورؤساء الجمهورية التركية السابقين، انه أدلى بكلامه علناً. ليكون بذلك وثيقة تاريخية عما تضمره تركيا لبعض الدول المجاورة لها، ومعظمها معادٍ لها. بينما كان سلف ديميريل، الرئيس الراحل تورغوت اوزال يمرّر أفكاره عبر آخرين دون تحمل وزرها. وبعدما أدلى ديميريل بتصريحاته الأخيرة بات من الثابت ان رغبة تركيا في اخضاع شمال العراق لنفوذها تمثل نهجاً وإستراتيجية في السياسة الخارجية التركية، تؤكدهما الوقائع التالية:

عندما بدأت عملية "فولاذ" العسكرية في شمال العراق، اعتبر مراقبون اتراك أنها الحلقة الاخيرة من حرب الخليج الثانية. ويذكر ان وسائل الاعلام التركية باشرت، منذ اللحظة الاولى لاحتلال العراق الكويت في آب أغسطس 1990، حملة على نطاق واسع شددت على "تركيَّة" لواء الموصل - كركوك، معززة ذلك بما اعتبرته الأدلة والوثائق، وأولها الوعد الذي قطعه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك للنواب الهائجين المعترضين على المعاهدة الثلاثية بين انكلترا وتركيا والعراق، التي رسمت عام 1926 الحدود الحالية بين العراق وتركيا، بالعمل على استعادة الموصل "في الوقت المناسب"، "ريثما يأتي وقت نكون فيه اقوياء، ونضع يدنا عليها الموصل".

 

خريطة اوزال!

وقبل يوم واحد من اندلاع حرب الخليج في 15 كانون الثاني يناير 1991، استخدم اوزال في خطاب تحذيري وجهه الى الرئيس العراقي صدام حسين للمرة الأولى عبارة "الشعوب العراقية". وشاع على الاثر ما سمي "خريطة اوزال" التي تدعو الى تقسيم العراق الى ثلاث دول: عربية، وكردية، وتركية. كما نقل عنه بعض مؤيديه انه يجمع ويعدّ الوثائق التاريخية والقانونية التي تدعم تبعية الموصل لتركيا و"المصالح المشتركة" بين تركيا وأكراد العراق. وكان اوزال نفسه يحذر باستمرار، ابان ازمة الخليج الثانية، من "ان أي تعرض لوحدة الأراضي العراقية للخطر يسبب لنا قلقاً طبيعياً". وبعد أسبوعين على بدء الحرب، لمّح اوزال، الى تغييرات جغرافية في المنطقة وقال: "ان الشرق الاوسط بعد الازمة لن يبقى على ما هو عليه. ولا أقصد هنا جغرافية المنطقة".

لكن أخطر الاسرار التي كانت تخبئها أزمة الخليج، أنكشف في 6 تموز يوليو 1994، اذ اتضح ان اوزال كان يريد فعلاً احتلال لواء الموصل - كركوك. وقد عرض الرئيس التركي الراحل هذه الخطة في اجتماع مغلق عقده مع رئيس الحكومة آنذاك ييلديريم آقبولوت، ورئيس الاركان نجيب طورومتاي، قبل شهر ونصف من اندلاع الحرب. لكن الخطة واجهت معارضة من جانب آقبولوت الذي اعتبرها "خطأً سياسياً"، فيما لم يعارضها طورومتاي إلاّ لأسباب فنية، اذ قال "نحن لن نستطيع ان نخرج بسهولة من هناك، ولا نستطيع تأمين الدعم اللوجستي لوحداتنا هناك لأكثر من اسبوعين".

ويحتفظ زعيم حزب الوطن الام مسعود ييلماز، الذي كان مقرباً آنذاك من اوزال، بـپ"سرّ خطير" متعلق بهذه القضية، ويؤدي الكشف عنه الى "خطر كبير على علاقاتنا الخارجية"، ويرجح ان ذلك السر مرتبط بموافقة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش على احتلال تركيا للموصل - كركوك. ولم ينقطع اوزال بعد انتهاء حرب الخليج، عن تذكير من حوله "بأننا لو قمنا بهذه العملية لكان أكراد شمال العراق، وكذلك حزب العمال الكردستاني تحت اشرافنا. عدا ذلك كنا استطعنا المطالبة من جديد بحقوقنا المغتصبة منذ سنوات في نفط الموصل - كركوك."

 

بعد بدء عملية "فولاذ" الاخيرة، أعلن رئيس الاركان التركي السابق طورومتاي، الذي عارض التدخل التركي عام 1991 في العراق، تأييده لها، بدعوى توفر الشروط الفنية اللازمة لها. ويؤكد مسؤول عسكري تركي رفيع المستوى "ان رغبة اوزال في دخول شمال العراق كانت دونها عقبات فنية. وتركيا عملت منذ 1991 على سدّ هذه الثغرات من التدريب والتجهيز بحيث تحقق اهدافها بعد الدخول في غضون اسبوعين". وعلى هذا لم تكن العملية العسكرية التي شنها الجيش التركي، خريف العام 1992، ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، سوى تمرين لعملية "فولاذ"، التي قد تكون بدورها تمريناً آخر لعملية احتلال قادمة أكثر اتساعاً وديمومة. وهذا النوع من "التمارين" يبدو حاضراً في الذهنية العسكرية التركية عندما يشير بعض المحللين الاتراك الى أن انقرة كانت تريد التدخل العسكري المباشر في الاضطرابات التي حصلت العام 1963 في قبرص، بين الطائفتين اليونانية والتركية، لكن عدم استعداد الجيش التركي، لمثل هذا الغزو اضطره الى تأجيله الى العام 1974.

الى ذلك، وفور بدء عملية "فولاذ" عاد الى الظهور في بعض وسائل الاعلام التركية الحديث عن "مشروع الموصل"، ومنه دعوة عمر هيدير سورتشي، زعيم عشائر سورتشي الكردية الكبيرة في شمال العراق، الى انشاء "ولاية الموصل" التي تضم عرباً وأكراداً وتركماناً تحت حماية تركية.

 

اتجاهات سلبية

وتأتي تصريحات ديميريل الأخيرة - فيما يرى المراقبون - مؤشراً على اتجاهات سلبية وخطيرة في السياسة الخارجية التركية. فهي - أولاً - انتهاك صارخ للمواثيق والمعاهدات الدولية القانونية. وقضية الموصل انتهت قانونياً بابرام معاهدة 5 حزيران 1926، وفيها تعترف انقرة بالحدود الدولية الحالية بين تركيا والعراق. ولذا فإن العودة الى المطالبة بتعديل هذه الحدود، تنبئ بأن المواجهة ستكون شرسة. وستحاول تركيا استخدام كل الأوراق التي تملكها، بما فيها ورقتا المياه والتركمان العراقيين، للضغط على بغداد وتحقيق رغباتها.

وتمثل المطالبة بتعديل الحدود مؤشراً سلبياً على المنحى الذي قد تتخذه مسألة المياه بين تركيا، وكل من العراق وسورية، خصوصاً ان انقرة ربطت تعديل الحدود بأسباب امنية متصلة بعمليات حزب العمال الكردستاني المتهم بدعم دمشق الكامل له. وديميريل المطالب بتعديل الحدود، هو نفسه صاحب التصريحات التي لاقت صدى سلبياً للغاية في الاوساط العربية، حول سيادة تركيا على مياه نهري دجلة والفرات. وما كان يقال همساً او يسرّب الى وسائل الاعلام، عن نية تركيا في استخدام المياه سلاحاً ضد سورية والعراق، ستتعامل معه الاطراف العربية المعنية بجدية كاملة، لم تكن موجودة قبل اطلاق ديميريل تصريحاته في شأن الحدود.

وتطرح المطالبة بتعديل الحدود بين العراق وتركيا سياسة تركية جدية ازاء الاقليات التركية او المسلمة في بعض الدول المجاورة لتركيا، ولا سيما بلغاريا واليونان وقبرص، بل سورية. ففي بلغاريا يوجد ما لا يقلّ عن مليون نسمة من اصل تركي. وكانت تركيا رفعت في منتصف الثمانينات لواء حمايتهم من الاضطهاد الشيوعي. وفي اليونان يوجد أكثر من 150 ألف مواطن من اصل تركي في منطقة تراقيا شمال شرق اليونان. وغالباً ما تثير انقرة أوضاعهم "البائسة". وآخر مظاهر سياسة الاقليات التي تنتهجها تركيا، زيارة وزير الدولة التركي ييلديريم آقتونا في 5 أيار الجاري الى تراقيا الغربية، وتعرضه لاعتداءات من قبل مواطنين يونانيين. وفي العراق يعلق الاتراك اهمية على أكثر من مليون تركماني، لا سيما في منطقة كركوك النفطية، حتى ان اوزال دعا الى انشاء دولة خاصة بهم.

كذلك سيترتب عن تصريحات ديميريل اثارة شكوك ومخاوف لدى جيران تركيا، من بلغاريا واليونان الى سورية والعراق وايران، مروراً بأرمينيا وجورجيا وروسيا وحتى أوكرانيا، وبالتالي الدخول في سباق تسلح واسع النطاق. فالقضية لم تعد مجرد مخاوف، بل حقيقة معلنة على لسان أرفع مسؤول في الدولة التركية. ومن يضمن ان تركيا لن تطالب "في الوقت المناسب"، باستعادة شبه جزيرة القرم، او بعض اليونان وبلغاريا. وأوزال نفسه صرّح اثناء أزمة الخليج بأنه اذا كانت الكويت جزءاً من العراق، فإن العراق كله كان "عثمانياً".

الملف المفتوح

عكست المطالبة بتعديل الحدود واقعاً خطيراً آخر، وهو ان ملف الحرب العالمية الاولى لم يطوَ بعد، بل يمكن القول انه فُتح من جديد. وستشهد القضايا المتصلة به تسخيناً في المرحلة المقبلة. اذ ستمنح مطالبة انقرة بالموصل الارمن تصميماً أكبر على التمسك بمطالبهم التي ما زالت عقبة امام تطبيع العلاقات الارمنية - التركية. فهم يطالبون تركيا بالاعتراف بارتكابها مجازر 1915 ضدهم، ودفع التعويضات اللازمة، واعادة الاراضي التاريخية الارمنية في شمال شرق تركيا الى الارمن حسبما ورد في اتفاقية سيفر التي ابرمت عام 1920، وهي اراض جدد المطالبة بها علناً قبل بضع سنوات الرئيس الارمني تير بتروسيان.

ايضاً ستمنح تصريحات ديميريل سورية، دفعاً اضافياً للمضي في سعيها الى استعادة لواء الاسكندرون الذي ضمته فرنسا الى تركيا العام 1939، أي بعد 14 سنة من ضم الموصل رسمياً الى العراق، في اتفاق كانت تركيا من الموقعين عليه، في حين ان سورية لم تكن طرفاً رسمياً في اتفاق ضم الاسكندرون الى تركيا، ولم توقع عليه ولم توافق عليه، وما زالت على موقفها منه حتى الآن. وما زال لواء الاسكندرون يظهر في الخرائط الرسمية السورية ضمن الاراضي السورية. وتتكرر من آن لأخر تصريحات سورية حول عروبة اللواء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تصريح ادلى به وزير الاعلام السوري محمد اسكندر العام 1990 الى صحيفة قبرصية، وقال فيه: "تسوية قضية الاسكندرون ما زالت تنتظر وان هذه المسألة لم تسوّ أبداً"، وأكد أن دمشق تعتبر هذه المنطقة على الدوام "أرضا عربية".

وحتى الاتراك انفسهم فوجئوا بإثارة هذه القضية في مؤتمر نظّمه معهد السلام الاميركي في واشنطن في اول حزيران 1994، وحضره خبراء من سورية وتركيا والولايات المتحدة ودول اخرى، عن "موقع تركيا الجديد في الشرق الاوسط". وكان انطباع الصحافي التركي المعروف محمد علي بيراند، الذي شارك في المؤتمر، ان على تركيا الاستعداد لمواجهة احياء هذه المسألة.

وفي المقابل، فإن السؤال الذي يبحث عن اجابة هو انه اذا كانت تصريحات ديميريل جدية فلماذا انسحبت القوات التركية من شمال العراق في وقت اسرع مما كان متوقعاً؟ للاجابة عن هذا السؤال، تجب الاشارة اولاً الى أن عملية "فولاذ" هي الاكبر في تاريخ الجمهورية التركية التي تنفذها قوات تركية خارج الحدود. وربما كانت من ناحية فنية "تمريناً" يستفاد منه في أية محاولة مستقبلية لعملية أكثر اتساعاً تصل الى آبار نفط كركوك.

ومن جهة ثانية، يبدو ان حسابات انقرة لم تأت مطابقة لما أسفرت عنه التطورات. ففي اليوم الاول للعملية، كان هناك اجماع اقليمي ودولي على تفهم دوافع العملية. لكن مع مرور الوقت، اتسعت المعارضة للتحركات العسكرية التركية لدرجة لم يبق لها مؤيد سوى واشنطن. الأمر الذي فرض على القادة الاتراك اعادة النظر في خططهم، وصولاً الى انسحاب كامل ومفاجئ في سرعته. وأدرك العسكريون الاتراك ان العملية لم تسفر عن نتائج ملموسة في تصفية حزب العمال الكردستاني، وان استمرار احتلالهم شمال العراق كان سيعرضهم لاحقاً لحرب عصابات من جانب مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين حافظوا، رغم ضراوة هجمات العملية، على سلامة بنيتهم الاساسية.

 

النفط وايران والأكراد

في خضم العملية العسكرية التركية، حصلت تطورات ذات مغزى على أكثر من صعيد. فقد أصدر مجلس الامن الدولي قراره الرقم 986، الذي يسمح للعراق بتصدير نفط قيمته بليونا دولار كل ستة أشهر، لشراء مواد غذائية وأدوية، مع تخصيص ربعها لمساعدة اكراد شمال العراق. ويعني هذا القرار استئناف تصدير النفط العراقي الى الخارج عبر خط انابيب كركوك - يومور طاليق عند خليج الاسكندرون، وما يعود به ذلك من مكاسب نفطية ومالية لتركيا، والمساهمة في تمويل الخطط الدولية والتركية في شمال العراق. كانت انقرة تعوّل على رضوخ بغداد للقرار تحت ضغط الوجود العسكري التركي، لتحقيق على تلك المكاسب. لكن رفض بغداد القرار أطاح الآمال التركية. وجاءت تصريحات ديميريل تغطية لهذا الفشل، واستئنافاً لضغط من نوع آخر على بغداد، للوصول لاحقاً الى صيغة تضمن لانقرة حصة في النفط العراقي الذي تشير التقارير الاقتصادية الى حاجة تركيا الماسة اليه، لعمليات التنمية، في الاعوام المقبلة.

كذلك لاحظ المراقبون ان تصريحات ديميريل جاءت في خضم السياسة الاميركية الرامية الى احتواء ايران. وبدا واضحاً في الفترة الاخيرة ان واشنطن ماضية في استخدام كل الاوراق الممكنة ضد ايران، من الغاء حصتها 5 في المئة في اتفاق القرن النفطي مع أذربيجان، وحظر اي تعامل تجاري اميركي معها، الى محاولة منع حصول اي تعاون نووي ايراني - روسي.

وتعني مطالبة ديميريل بتعديل الحدود مع العراق تلقائياً تعديل الحدود مع كل من ايران وسورية. وهذا يعني ترجيحاً لكفة المصالح التركية في المنطقة، ما يهدد المصالح الاقليمية لايران من جهة، ووحدة اراضيها من الجهة الأخرى، خصوصاً فيما يتعلق بكردستان الايرانية المحاذية لكردستان التركية وكردستان العراقية. وقد تسبب القلق الايراني من التوسع التركي في عدم عقد اللقاء الدوري لوزراء خارجية ايران وتركيا وسورية الذي كان مقرراً عقده في اصفهان في 28 نيسان ابريل الماضي الى أجل غير مسمى.

ويرى مراقبون ان المطالبة بتعديل الحدود التركية مع العراق، بالتزامن مع انسحاب الجيش التركي من الشمال العراقي، رسالة تركية الى اكراد العراق، بألاّ يفسروا الانسحاب التركي ضعفاً، ودعوة لهم الى التعاون مع تركيا على الصعيد الامني. واشارة أخرى الى عدم المضي قدماً في تأسيس دولة كردية، لأنه اذا كان لا بد لشمال العراق من أن يتطور، بمعزل عن بغداد، فلا خيار سوى التبعية المباشرة لتركيا او البقاء أسيراً لنفوذها.

من جهة أخرى تشير بعض الاوساط الديبلوماسية التركية، الى ارتباط تصريحات ديميريل بحسابات سياسية داخلية تركية. فالعلاقات بين ديميريل وتشيللر تشهد جفاء واضحاً منذ اشهر. وقد أعلن الرئيس التركي، يؤيده في ذلك رئيس البرلمان حسام الدين جيندوروك، أكثر من مرة عن استيائه من اسلوب تشيللر في ادارة البلاد. وجاءت زيارة ديميريل الى أميركا الجنوبية التي استمرت 10 أيام، في ذروة العملية العسكرية التركية في شمال العراق، مؤشراً على ضعف موقع الرئاسة، وانعدام تأثيره في الاحداث. ورأى متابعون للشأن التركي انه ربما قصد بتصريحاته الاخيرة اضعاف تشيللر، واحراجها بالخوض في السياسة الخارجية التي تعتبر من صلاحيات الحكومة، واظهار رئيسة الوزراء بمظهر التابع، وليس المبادر بطرح قضايا مصيرية.

 

تشيللر ووقائع التاريخ

وخلص المراقبون الى ان رغبة انقرة في المطالبة بتعديل الحدود الى "سفوح الجبال" لأسباب امنية، لمنع تسلل مقاتلي الكردستاني، تبرير واه، وغير مقنع، اذ ان جزءاً كبيراً من مسرح العمليات بين الجيش التركي والعناصر الكردية يقع داخل تركيا نفسها، كما ان الحواجز الجغرافية غير قادرة على منع تسلل مقاتلين ينتشرون "مثل حبات الرز" على حد تعبير رئيس الاركان التركي اسماعيل قره داي. وإذا كانت المطالبة بالتعديل تعزى الى أسباب أمنية فما الذي سيحصل في حال انتفاء تلك الاسباب الامنية؟ هل ستعود تركيا الى حدودها السابقة؟ وهل كلما حدثت مشكلة امنية مع بلد مجاور ستلجأ انقرة الى المطالبة بتعديل حدودها معه؟ إن تركيا مع تصريحات ديميريل، تؤسس وبخفة لا متناهية، لمرحلة خطيرة من التعاطي مع قضايا حساسة مثل تعديل الحدود. لقد ذهب ديميريل الى حيث حاول حتى أوزال النأي بنفسه عنه. لكن الاثنين - كما بدا لكثيرين - لم يفعلا شيئاً سوى تحريك "عش دبابير" ستكون تركيا نفسها اول المتعرضين للسعاته.

لقد أُخذ على رئيسة الوزراء تشيللر جهلها بوقائع التاريخ عندما شبهت عملية "فولاذ" بـپ"بليفين" جديدة. في حين ان الموقعة الأخيرة حدثت العام 1877، وأسفرت عن الحاق هزيمة منكرة بالجيش العثماني، ووقوع قائده غازي عثمان باشا في اسر الجيش الروسي، وكانت فاتحة لتحرير بلغاريا. وما يخشى منه أن تجرّ الحسابات الخاطئة الجديدة لأنقرة البلاد الى بليفين اخرى، لا يهم عندها من يكون "غازي عثمان باشا الجديد": ديميريل ام تشيللر.

علق هنا