العراقيون الذين لم يصدقًوا الرؤساء من قبل .. كيف صدقوا الكاظمي اليوم ؟!

بغداد- العراق اليوم:

على عكس السائد والمتعارف، فإن احد علماء الاجتماع المُعاصرين يطرح رأياً طريفاً وإشكالياً  عن علاقة الحاكم مع العراقيين، ويذهب الى القول ان " الدارج في الأدبيات ان العراقيين يعانون محناً مع حاكميهم، لكننا لم نلحظ أي محنة يعيشها الحاكم معهم؟"، ويرى ان هذه العلاقة الإشكالية انما ناتجة عن فهم عميق وذكاء متوقد، وقدرة على التحاجج  والجدل يملكها الشعب العراقي ويعمل وفق مقاساته، ولذا فأن الشائع عن اهل العراق انهم اصحاب رأي، ولا يقبلون ما يقوله السلطان او الحاكم دون ان يخضعوه لمشرطهم النقدي الحاد والقاسي جداً  احياناً.

نسوق هذه المقدمة البسيطة لنذهب في تحليل عمق أزمة الحاكم في عراق ٢٠٠٣ وما بعدها مع الشعب، وكيف ان الأخير (الشعب) بدأ رحلته الشاقة بنفس مليئة بالشكوك والريبة والوجوم والخوف مما يبطن لهم  الحاكم بعد تجربة قاسية وفظيعة غير مسبوقة مع حكم البعث ودكتاتورية صدام وعائلته المتخلفة، وللأسف الشديد كان اداء من تسلموا دست السلطة بعد هذا التأريخ مخيباً للآمال، معززاً للشكوك، محبطاً للمتطلعين في تغيير التجربة المريرة المزمنة.

لقد فقد العراقيون اي امل، وقطعوا اخر حبالهم حينما انتفضوا في تشرين 2019، معلنين القطيعة النهائية مع  هذا العهد مالم تجرِ معجزة، ويعاد إصلاح شكل العلاقة المُلتبسة بين الحاكم والمحكوم.

لربما فهمت قوى دينية وشعبية طبيعة الارتداد الاجتماعي في تشرين، فانطلقت تنادي بحلول خارج المعادلة القائمة آنذاك، وطالبت بتعجيل الانتخابات، بمعنى اعادة خيار تحديد السلطة مجدداً بيد الشعب، للخروج من أزمة الغضب المتصاعد ضد الحكم والطبقة التي يمثلها، ويتمثل مصالحها في سلوكه وحكمه.

في مثل هذا المشهد المخيف، تصبح مهمة أي حاكم يتصدى، عسيرة صعبة، فلا الوعود تصدق، ولا البرامج الحكومية قابلة للهضم من مزاج شعبي صعب المراس، ومتعكر للغاية، ومختطف بروح تمرد ثورية عاصفة، فكانت مهمة الكاظمي انتحارية بكل المعنى، ولا يمكن أن توصف المهمة الإ بكونها سيراً في حقل الغام، ورقصاً مع أفاعي سامة متأهبة للانقضاض والافتراس من طرف أخر.

لذلك انقسم حوله الشارع بين من فضل التشكيك وعدم التصديق وعدم القبول مطلقاً، وهو يملك معه ذاكرة مليئة

بالإحباطات النفسية والسياسية والنكبات الأمنية، وبين من فضل أن يضع في أذنيه " عجينًا" كي لا يسمع نداء الكاظمي الذي قاله في أولى ايامه، وهو يعلن أن عهداً مختلفاً قد بدأ، وأن زمن الانكسارات سينطوي، وأن صفحات الخذلان ستمزق من سجل الحاكم، وأن العلاقة قابلة للترميم، ويمكن أن يُبنى على أسس ما بُني في بعض المراحل، لكن الكاظمي كان كمن يصيح بواد عميق لوحده، دون أن يسمع صداه أول الأمر، لكنه لم ييأس، فهو واثق من نفسه ومما يفكر ويطمح، مع ملاحظة محايدة، أن الرجل صادق مع نفسه ومع إيمانه الوطني، وعراقيته الخالصة، ويعرف أن انحسار " تسونامي" الغضب الشعبي سيكون قريباً، وسيتمكن هو ومن معه من أن يزيحوا الكثير من ركام السنوات الطوال من الألم والمعاناة، وسيكون للصدق اثره وقيمته في ذلك.

فراح يعمل بصمت وصبر شديدين، حيث يعالج أزمة اقتصادية خانقة هنا، وهنا يفك أزمة مالية مدمرة، وفي جبهة ثالثة يجابه موجة وباء مهلك ، وفي مكان أخر  يضرب رؤوس الفساد والفاسدين، وبين ذلك، يواجه لهيب صيف ساخن، بلا كهرباء، والناس لا تزال تنزل للشوارع تعبيراً عن الغضب والثورة عما حدث في خريف الغضب 2019.

بهذه الإرادة واجه الكاظمي،  وبشجاعة رجل حقيقي مضى نحو ملاقاة الصعاب، وبهمة مقاتل شرس في كل الميادين وعلى كل الجبهات، دون أن يلتفت الى قلة من معه، أو ضعف أدواته بادئ الأمر، فكان الرجل يخترق وينجح، ويعكس نجاحاته على الشارع، وجنبه مألات سيناريوهات الدمار التي كانت ترسم في الخفاء، وتلك السكاكين التي كانت تشحذ في الجوار كي يذبح العراقيون بعضهم البعض الأخر.

وهنا سقط " العجين" من آذان البعض، أو أزالوه رغبةً منهم في سماع هذا الخطاب الوطني الحقيقي، وسعياً منهم للالتحام مع مشروعه المخلص من اجل الوطن.

وراح طيف واسع من شعبنا يتابع عمل الكاظمي وصراعه المباشر  مع الفاسدين والمليشياويين والسلاح المنفلت، وبحثه الجاد عن قتلة المتظاهرين، واللقاء بعوائل الشهداء، ومصداقية كلماته التي لم يحاول يوماً تزويقها وتلميعها، إذ يبدو ان الرجل يريد مخاطبة الناس بما في قلبه وليس بما على لسانه، واقتنع هذا الطيف بحدوث تحول جذري في المسيرة، وشعر الجميع أن مرحلة ما ستطل برأسها على العراق مجدداً، بعد طول انتظار.

وحين أتت تفجيرات ساحة الطيران الإجرامية، إنبرى الكاظمي وبخطاب رجل دولة مسؤول، ليطلق وعده بالثأر للشهداء، والاقتصاص من القتلة، ولكنه لم يقل أنه " ولي الدم"، بل أكد أن الدولة هي ولية دم كل عراقي، وأنها ستأخذ بحقه وثأره عبر اجهزتها المختصة، وهذا يعكس أيضاً تحولاً هاماً في فهم الحاكم لموقعه، كمسؤول تنفيذي منتخب لأداء وظيفة عامة، وبين فهمه كراعٍ وحامٍ لرقاب الشعب وأمورهم.

قوبل الوعد بالثأر للشهداء من قاتليهم الغادرين، بهمس وأسئلة حيرى، تبحث عن الطريقة التي سترد بها الدولة على هولاء، وهل هي ردة فعل مثل سابقاتها، أم مجرد حديث انشائي يهدف لامتصاص الغضب الشعبي المتفجر من قبل الكاظمي، فالعراقيون سمعوا هذا كثيراً، ولديهم أرث طويل من وعود بالانتقام من تنظيم القاعدة وسياراتها المفخخة واحزمتها الناسفة، لكن لم يجرِ البر  بها والايفاء بغالبها، فكيف سيجتاز الكاظمي هذا المطب، وفي هذه الظروف الذاتية الكارثية؟، وهذا السؤال بقي يدور كالكرة بين المتعاطف مع الكاظمي، وبين الساخر والمشكك، فالأول لا يملك الكثير من الوقائع كي يقنع الثاني، ولا الثاني قادر على أن يثبت صحة تشكيكه.

لكن رد الكاظمي جاء هذه المرة، قوياً هادراً مزلزلاً سريعاً، قالها ببسالة وبأس: لقد قتلنا والي داعش على العراق، نعم نفذنا عملية " وادي الشاي" وأطحنا بالمجرم العيساوي، وسنواصل الثأر بمن تبقى من هذه العصابة الخبيثة، ولم تمضِ سوى ساعات حتى عاد الكاظمي ليعلن أيضاً قتل ما يسمى مسؤول الجنوب، والعقل المدبر لعملية نقل الانتحاريين الجبناء الى ساحة الطيران، وراح يعلن عن قتل قيادات داعشية ميدانية أخرى، سيظل التنظيم بدونها كالأفعى مقطوعة الرأس، تتحرك دون أي هدف، وراح الرجل يصطاد هؤلاء القتلة بصمت ايضاً.

وهنا انتبه الناس، وراح بعضهم يعيد تقييمه وحساباته تجاه هذا الشاب الذي يقود العراق في اخطر مراحل التاريخ بهدوء دون ان يقول ( إنني وإننا وسين وسوف)، لقد أدرك الناس انهم امام شخص مختلف تماماً، ولأن العراقيين صعبو المراس، لا يصدقون أي شيء، ولا يمنحون للرؤساء ثقتهم بسهولة، فقد تأكدوا بالتجربة، أن أغلب ما قاله الكاظمي قد فعله خلال هذه الشهور السبعة من عمرِ حكومتهِ، رغم قسوة الظروف وصعوبة توفير المناخات الملائمة لتنفيذ أي وعد حكومي، واليوم - اليوم فقط - راح الناس يصدقون الكاظمي، وسيصدقونه في كل ما سيقول، لان الشارع الشعبي العراقي الذكي واللماح قد أدرك ان الرجل صادق، وعراقي حد النخاع.

علق هنا