الكاظمي وهو يقود عملية "بيريسترويكا " عراقية، هل أدرك خطورة ما يفعله؟

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

من المنصف جداً، أن يقرأ حراك تشرين/ اكتوبر 2019 برؤية فاحصة، وما تمخض عنه، وما نتج جراء ذلك الحراك الذي هز حجر العملية السياسية من الأساس من تداعيات، ليس على مستوى السياسة في العراق، بل وفي الإقليم أيضاً.

وأذا كانت ميكانيزمات القوى السياسية الماسكة بالسلطة أنذاك، قد بدأت بالإنكار للواقع الأقتصادي المتردي الذي وصلته البلاد، قد أنتهى بالإبدال، بعد أن اجتازت هذه القوى مراحل النكوص والفعلنة والإنشقاق والتجزئة والاسقاط والتبرير والانسحاب التدريجي، فأن كل من يقرأ الموقف أنذاك، سيجد أن " للإقتصاد دوراً محورياً في تفجير أزمة البلاد، بشكل أستعصى على الطبقة السياسية برمتها أن تجد مهرباً، او أن تخلص نفسها من تداعيات صنعتها هي عبر آليات الإفساد، والاستثراء، والزبونية السياسية وغيرها من الأدوات، وصولاً الى مرحلة أنغلاق تام في المشهد السياسي الذي أودى بحكومة عبد المهدي لسقوط تاريخي مترنحة تحت ضربات شارع محتج، وغياب القدرة على فهم متغيرات الشارع العراقي.

مؤكداً ان القوى السياسية كانت قد استنفدت كل ذخيرتها (القومية والطائفية، والفئوية والعصبويات البدائية)، ولم يكن لديها أي منتج تسوقه في ظل ازمات اقتصادية تراكمت، ليأتي وباء كورونا فايروس، وما خلفه من اضرار جسيمة في الفعل الاقتصادي السطحي الذي كان يجري في العراق (بيع نفط خام وصرف ايراداته في الفقاعة الأٌقتصادية الوهمية التي كانت تنمو بداخل شرنقتها طفيليات الفساد العميق)، لذا فإن السقوط الحتمي لحكومة عبد المهدي التي تجلت فيها صورة  (الإستزلام السياسي) بأوضح صورها كان إيذاناً بدخول البلاد في طورين لا ثالث لهما، فأما الدخول في حرب شاملة، (الطوائف داخل بعضها، القوميات مع بعضها البعض، المصالح والكارتلات المتصارعة لينتهي بالبلاد غارقة في وحل الهزائم والدم وزعماء الطوائف!).

هذا السيناريو كان يجب أن يتجاوزه العقلاء، عبر اختيار حلول جذرية، والتفكير بعيداً عن الأنويات الحزبية التي دمرت كل شيء، وكان لابد من إطلاق " بيريسترويكا" عراقية لاجراء اصلاحات اقتصادية عميقة وشاملة، وانتاج حلول صادمة بعض الشيء لكنها ضرورية لتجنب السيناريو الأول، لذا فقد جاء اختيار الكاظمي للإضطلاع بمهمة الإصلاح الاقتصادي وايقاف التداعي المتواصل في بلاد استنفدت ثرواتها في حروب عبثية عقود طوال، ليأتي الفساد العميم مجهزاً على أي فرصة من شأنها نقل البلاد الى مرحلة أخرى.

مراقبون اقتصاديون كانوا الأكثر تشاؤماً في تقدير الموقف، فأولى خطوات الإصلاح، أصعبها بصراحة، فدون عملية اصلاح لسعر النقد، وتعديل سعر الصرف، ستكون كل عملية إصلاح اقتصادية تقوم بها الحكومة عديمة الجدوى، أو على الأقل قليلة الفائدة، فتنشيط الأقتصاد الوطني مرتهن بإيجاد منافسة عادلة بين المنتج المحلي والمستورد، الذي كان يتدفق على اسواق البلاد مستغلاً سعر صرف الدينار غير الحقيقي والمدعوم، ولذا كان الإنتاج المحلي كاسداً، وكانت أي عملية افتتاح مصانع محلية للمنافسة نوعاً من الجنون والعبث بالنسبة للقطاع الخاص، ولكن مع تغيير سعر الصرف الآن، يبدو أن العجلة عادت على السكة مجدداً، وأن عجلة الصناعة الوطنية قد تبدأ بالدوران قريبا، مع توفير الحكومة بيئة استثمارية داعمة، وتخلصها من قطاعات الصناعات البيروقراطية الموروثة، والتي تجهض التحول الأقتصادي لأقتصاد سوق حقيقي، قائم على العرض والطلب، فما معنى أن تملك الدولة 400 مصنعاً مثلاً، وتنفق عليها المليارات سنوياً دون أن يكون لإنتاجها أي اثر في السوق المحلية، أو تقود منافسة مع ما يتدفق من سلع اقتصادية رخيصة الثمن، بالنسبة لسعر الدينار المبالغ فيه.

إن عملية (البيريسترويكا) العراقية التي يتكفل بقيادتها مصطفى الكاظمي هي دون شك عملية خطيرة، ومع كل الفوارق بين (بيريسترويكا) العراق الجارية الان، وبين أي (بيريسترويكا) أخرى في العالم، بسبب خصوصية وظروف التجربة العراقية المحض، فإن نتائج ومخرجات أي (بيريسترويكا) لن تأتي وتخرج بسهولة وبسلام قطعاً، فالثمن في مثل هذه العمليات الإستثنائية دائماً يكون كبيراً، بل كبيراً جداً، وليس بالضرورة أن يكون الثمن دائماً مربحاً، فأمامنا الثمن الباهض الذي دفعه الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف صاحب أشهر عملية  "بيريسترويكا" في التاريخ!

خلاصة القول:

حين توجه الكاظمي لمثل هذه العملية الجريئة، وقرر التحدي، هل أدرك خطورة ما يقوم به - ليس على مستقبله السياسي فحسب، بل وعلى حياته الشخصية أيضاً -، خاصة وهو ينزل شخصياً الى ساحة المعركة- وأي معركة تلك، حين يكون أحد طرفيها - دولة - تريد رغيف خبز شريف لأبناء شعبها، كما تريد لهم سلاماً وأمناً وأماناً، وعدالة، بينما في طرف المنازلة المقابل للدولة، جيوش من الفاسدين والحيتان والسياسيين المرتبطين بدول، وأحزاب، وميليشيات، واسلحة وبنوك وعصابات وقتلة ماهرين لايخطؤون في إصابة خصومهم؟

إن خطورة ومواصلة ما يقوم به الكاظمي بإصرار في هذه "البيريسترويكا " الجريئة، سيضعه برأيي أمام نهايتين، أما أن يحقق نجاحاً كبيراً جداً، قد لا تظهر آثار هذا النجاح الان، وبالتالي سيذكر التاريخ أسمه بحروف من نور في سجل القادة العراقيين  الشجعان .. واما أن تكسره عصابات الفساد، وتهزمه قوى المال والسلاح والموت الأسود .. وبهذا يكون الرجل قد أدرك تماماً معنى  (الشهيد الحي) !

 

علق هنا