بغداد- العراق اليوم: يقرأ المتابع السياسي للمشهد العراقي الأحداث، على أنها سلسلة غير منفصلة ولا منفصمة عن بعض، بل أنها جزء متصل بجزء، ولا يمكن أن تقرأ الأحداث الآنية، دون النظر الى الخلفيات المؤسسة لما يجري، فالمشهد الذي ما عاد قادراً على أنتاج خطاب مقنع للشارع المُحتج، صارت تفاصيل كواليسه السرية علنية، وما عادت أموره الكامنة مثيرة للدهشة، فالجمهور مل العرض المتواصل، ولم يعد أي " إكشن" يخترعه مخرج ما كافياً لتدب الحياة ثانيةً في صالة العرض السياسي المقفرة، فما الحل السحري الذي يمكن أن يخرج البلاد من أزمتها السياسية، وأن يطلق الخيال السياسي مجددًا لانتاج مشهد غير متوقع، ولا يعرف الجمهور نهايته؟. في الغرف السياسية، وبين صانعي المشهد الكبار لربما يدور مثل هذا الحديث، ولربما تجدهم يستعرضون السيناريوهات المتتابعة علها تفتح شهية الجمهور الغاضب، فيعود ليمضي الوقت في متابعة عرض جديد، لكن ما الفائدة اذا كان الجمهور الكلاسكي التقليدي، لم يعد مؤثراً في حضوره أو غيابه، وفي صمته أو حديثه، غضبه أو فرحه، فالمشهد تغير كثيراً، ولربما مر من تحت اقدام اللاعبين الكبار ماءُ كثير دون أن ينتبهوا الى حجم هذا، كيف؟. الجواب، طويل ومتشعب، لكننا سنختصره بما حدث في اكتوبر 2019، حيث كانت الدولة وقواها التقليدية تحتفل وتعد العدة لإكمال اتفاق توزيع المغانم السياسية، بعد أن تم الزواج غير الكاثوليكي بطبيعة الحال، بين الفتح وسائرون، بمباركة الأخوة – الاعداء، ومعهم السنة والأكراد، وفيما كانت لجان خاصة تقوم بتفريق المناصب حسب الأستحقاق والأهمية السياسية والأقتصادية، كانت الأمواج تعلو وتكاد ترتطم بالجميع، دون ان يشعروا، بل ارتطمت بالفعل بهم، على شكل هبة او حراك او انتفاضة أو ثورة، سمٓها ما شئت، لتعلن قيامة بغداد قبل آوانها، جيل جديد يكفر بكل تقاليد السياسة، ويخرج على كل حديث المظلوميات التاريخية، ويتجاوز حقوق المكونات، ويتمرد على حدود الدم التي رسمتها سنوات عجاف من الاحتراب الطائفي، جيل لا يعرف سوى أنه يريد أن يلتحق بالأجيال التي اتاحت لها ظروف العيش المختلة، فرصاً للثراء، أو للتحول الى لوردات من مال سائب، تقاسمته الجماعات، ونهبته اللوبيات، وسطت عليه العصابات، وأباحته يد لم تكن أمينة بما يكفي، فتحول الى لعنة تحرق الجميع. أن ما حدث في تشرين عام 2019، يتجاوز بعده السياسي، وأبعاده الزمكانية، الى أن يسجل "تحورًا" أو تطوراً نوعياً في شكل التفكير، وفي شكل العقلية السياسية والاجتماعية التي سادت، فإجيال جديدة، تقود الحراك وتقاوم الدولة، وتحتج على السلطة وتريد أن تقمع ذاتها بعد أن تفشل السلطة في تلبية طموحها في التحول الى سلطة قامعة بما يكفي، هذا جيل لا يؤمن بأي حال بالديمقراطية التي عرفناها وعرفتها هذه النخبة السياسية الحاكمة، ولا يمكنه بأي حال ان يلتقي معها وفق خط شروع واحد مهما حاولت أو تصنعت أنها فهمته، فكلمة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدي بن علي، حينما خاطب الشباب التونسي الثائر عام 2011، بكلمة " أفهمتِكُم" كانت تعني أنه لم يفهمهم مطلقاً ولن يستطيع الى ذلك سبيلاً مهما حاول، ففارق التفكير والمدى والمرجعيات والتكوينات الثقافية بين جيل الانترنت وما قبله، لا يجسره انشاء او سن قوانين انتخابية جديدة أو حتى خطابات عاطفية رنانة.
*
اضافة التعليق