في ذكرى تأسيس الجيش العراقي

بقلم ضياء إبراهيم حسون

تاريخ العسكرية في العراق ضارب في القِدم، حيث ظهر في العراق أول جيشٍ نظامي في العالم خلال القرن التاسع قبل الميلاد. وعلى مدى عدة قرون ظهرت في العراق عدة جيوش اختلفت باختلاف الحضارة التي نمت في كنفها، بدءا من العصر الآشوري ومرورا بالعصر الأكدي والبابلي والإسلامي وحتى العصر الحديث.

وظهر في التاريخ قادة مقتدرون، دان لهم الشرق كله، معتمدين على جحافل هذا الجيش، بدءا من نبوخذ نصر مرورا بالحجاج وصلاح الدين الأيوبي. وعلى هذا الأساس، سوف نرى لماذا كان الجيش العراقي ضحية المؤامرات الداخلية والدولية. يَرجع تاريخ تأسيس الجيش العراقي الحالي إلى عام 1921 في عهد المملكة العراقية وفي ظل حكم الملك فيصل الأول، حيث تأسَست أولى وحَدات القوات المسلحة خلال عهد الانتداب البريطاني للعراق، كما تشكلت أيضا وزارة الدفاع العراقية التي ترأسها الفريق جعفر العسكري والتي بدأت بتشكيل الفرق العسكرية بالاعتماد على المتطوعين، فشكل فوج الإمام موسى الكاظم، واتخذت قيادة القوات المسلحة مقرها العام في بغداد، وكذلك شكلت الفرقة الأولى مشاة في الديوانية والفرقة الثانية مشاة في كركوك تبع ذلك تشكيل القوة الجوية العراقية عام 1931 ثم القوة البحرية العراقية عام 1937. وينبغي القول أن الجيش العراقي الحديث شكل وجهز ليس للدفاع عن الوطن في حينها، وإنما لحماية السلطة أمام تهديد العشائر العراقية، التي تمتلك من السلاح والرجال ما يعادل جيشا نظاميا، وقد رأى الاحتلال البريطاني ذلك جليا في ثورة العشرين. لتكون مهمة الجيش قمع التمرد والعصيان. وما أن مضت خمسة عشر عاما على تأسيسه، حتى ظهرت بوادر خطر الجيش العراقي ضد السلطة الحاكمة، متمثلة بانقلاب بكر صدقي عام 1936, ليكون باكورة الانقلابات العسكرية ليس في العراق وحسب، وإنما في العالم العربي أجمع، وبذلك دق الجيش ناقوس الخطر الأول بوجه سلطة الملك ونوري السعيد ومن خلفهم بريطانيا، وقد سعت الأخيرة على عدم تجهيز هذا الجيش بمعدات الجيوش الحديثة، ليكون تشكيل عسكري أقوى من الشرطة وأضعف من قوات مسلحة تحمي الحدود. ومع ذلك تنامت قدرة الجيش، ما دفع بعض الضباط إلى الجرأة والانقلاب ضد سلطتي الوصي والانتداب البريطاني عام 1941, حيث خاض الجيش العراقي أولى حروبه في العصر الحديث ضد القوات البريطانية، تمت بعدها معاقبة الجنود العراقيين بطريقة قاسية، وكأنهم كانوا يشكلون جيشا هتلريا يقف أمام الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، رغم بساطة تجهيز وعدد القوات العراقية مقارنة بجيش بريطانيا الذي دان له العالم يوما ما. ومن هنا بدأت سلطة الاحتلال وحكومة العراق آنذاك التفكير جديا في اضعاف الجيش العراقي عبر زجه بحروب خارجية غير مهيأ لها، لتنكسر شوكة هذا الجيش وتنهار شجاعة وطموحات قادته، إضافة إلى التخلص من تنامي قدرات الجيش العراقي التي فاقت الحدود المرسومة له، كما أسلفنا، وكذلك ابعاد خطره عن السلطة، وتقليم أظافره. وتزامن هذا التفكير مع سعي بريطانيا والدول الاستعمارية في تحقيق هدف إنشاء إسرائيل، ولتحقيق هذه الخطوة، يجب البدء بسحق الجيوش العربية، وتقديم صورة تعلق بأذهان العرب على قوة الجيش الإسرائيلي، والتي ستكون العامل الأهم في عملية إقامة دولة إسرائيل، من خلال انتصار ساحق تحققه قوات الدولة الناشئة على قوات لم تخلق للحروب. وتهيأت الفرصة لذلك في حرب 48 في فلسطين، التي وضع فيها الجيش العراقي امام اقدر الجيوش الحديثة تدريبا وتسليحا إلا وهو الجيش الإسرائيلي، وبهذه الحرب سوف تتحقق جميع تلك الأهداف دفعة واحدة. ومرة أخرى يثبت فيها الجيش العراقي قدرة وبسالة لا نظير لها، بقيادة الرائد حينذاك عبد الكريم قاسم، ادهشت تلك الشجاعة العدو قبل الصديق، حيث تمكن ذلك القائد العسكري الشاب من قلب موازين المعركة، وتحويلها من خسارة محتومة الى تقدم كبير. وعندما رأوا أن الخطر بات محدقا بإسرائيل، نتيجة التقدم الغير متوقع للقوات العراقية، أوقفت الحكومات العربية العميلة الحرب ومنها الحكومة العراقية، وتم سحب الجيش العراقي ومعاقبة ضابطه البطل عبد الكريم قاسم، لتستمر المؤامرات بعد ذلك على هذا الجيش، إلا أن حانت ساعة الصفر في الرابع عشر من تموز عام 1958 معلنة عن ثورة قادها هذا الجيش، لكن هذه المرة بقيادة الزعيم عبد الكريم، ليعود الجيش إلى أحضان الشعب، مدافعا عنه من كل طامع خارجي. و بعد أن رأوا ذلك، أنى لهم أن يتركوا هذا الجيش في ان يصبح سورا حقيقيا للوطن، لتبدأ المؤامرة الكبرى بانقلاب شباط الأسود عام 1963، لكن، هل كان بطل هذا الانقلاب الجيش؟ الجواب، كلا. كان بطله المخابرات الأمريكية ومرتزقة ما سمي حينها بالحرس القومي، لنكون أمام مرحلة جديدة من بناء الجيش وتحويل عقيدة الدفاع عن الوطن إلى عقيدة الدفاع عن شخص الرئيس، ولتأمين هذا الجانب، قامت السلطات حينذاك بتوزيع الرتب العسكرية حسب درجة القرابة والولاء، معلنين عن خطوة تتمثل بخلق القادة غير الأكفاء، الذين سيكون لهم المستقبل في رمي الجيش العراقي في التهلكة. توجت مؤامرات القضاء على الجيش العراقي بجلب صدام حسين الى السلطة، حيث سرعان ما قلد نفسه رتبة عسكرية لم يعرفها الجيش العراقي قبل ذلك، وهو الذي لم يخدم يوما في العسكرية. فمعروف أن أفضل طريقة يتم بها تدمير الجيش، تكمن بخلق قيادات زائفة وغير مهنية، وهذا ما حصل طيلة فترة البعث. كانت مهمة صدام الأولى حين اعتلى سدة الحكم، في أن يقوم بشن حرب عبثية مع إيران، ولكونه ليس عسكريا كما اسلفنا، إضافة إلى امتلاكه كم كبير من الحماقة، قدر أن تطول حربه مع إيران مدة أسابيع قليلة، يحتل فيها طهران، لكن الواقع أطال الحرب ثمان سنوات، قضي فيها خيرة الشباب، ودمرت الروح المعنوية للجندي العراقي، حتى أصبحت الخدمة العسكرية كابوس يلاحق العراقي أينما حل. ومع ذلك فقد خرج الجيش من الحرب مع إيران بخبرة قتالية وتسليح عال، استشعرت معهما السلطة الحاكمة بخطورة الجيش عليها، ليتم زجه مرة أخرى في حرب غزو دولة الكويت، ويوضع بمواجهة جيوش 33 دولة، وبذلك كانت حرب الخليج الأولى بداية النهاية للجيش العراقي، حيث وضع الجيش المنسحب من الكويت وبطريقة مقصودة تحت قصف طائرات التحالف، بغرض إبادته وابعاد خطره عن سلطة صدام حسين. واستكمل صدام مسلسل إنهاء الجيش بإعدام قياداته الكفؤة بحجة التآمر على السلطة. بعدها عاش هذا الجيش إرهاصات الحصار والجوع وفساد وجشع قادته إلا أن أطلقت عليه رصاصة الرحمة بحله بعد احتلال العراق. ومع ذلك لم يدافع الجيش العراقي عن سلطة صدام في حرب غزو العراق, ولم يكن لديه الاستعداد المعنوي للدفاع عن سلطة الديكتاتور، وكان صدام يعلم ذلك جيدا، لذا لم تسند للجيش مهام فعلية في التصدي للقوات الأمريكية، وإنما أسندت إلى أجهزة صدام الخاصة، بقيادة أولاد وأقرباء صدام، فكانت النتيجة، أن أحتل العراق بثلاثة أسابيع. وأعيد تشكيل الجيش العراقي مرة أخرى في زمن الاحتلال الامريكي، ومرة أخرى يعيد التاريخ نفسه، حيث أعيد البناء بشكل محدود ومنقوص، لوجود فوبيا الجيش العراقي لدى الكثير، وحتى لدى شركاء الوطن، فهم يظنوا ان جيش العراق أقسى يوما عليهم، لكن يجب أن لا ننسى، أن هنالك جيش السلطة، وهناك جيش الوطن، والأخير لا يمكن أن يقسو على الشعب، وهو ابن الشعب، بل يجب أن لا نتناسى أن هذا الجيش اليوم هو ابن العراق، وجنوده هم أبناؤنا وإخواننا، واليوم يقدم صورة مشرقة في الدفاع عن العراق ضد الإرهاب، رغم أن المؤامرات استمرت ضده حتى من قادة العراق الجدد، الذين جاؤوا بأعوانهم وزبانيتهم لقيادة جيش من أخطر جيوش العالم، أدت تلك القيادات الفاسدة والبائسة الدور الرئيس في خسارة ثلثي أراضي العراق لمجموعات إرهابية جاءت من اصقاع الارض، لتكون وصمة عار في جبين هؤلاء القادة ومن جاء بهم، أما الجيش فهو يبقى عمادنا، وهو من سيأتي بالأرض المغتصبة ويغسل عار القادة المتخاذلين والسراق. فتحية للجيش العراقي في عيده الاغر، وحفظ الله العراق بجيشه وشعبه.

علق هنا