حرب ترامب ضد أجهزة الاستخبارات

إذا اعتقد البعض أن 2016 كانت سنة غير عادية في الولايات المتحدة واتسمت بالغرابة وحتى السريالية بسبب ظاهرة دونالد ترامب الذي انتخبه الأميركيون رئيسهم الخامس والأربعين لأنه لم يتصرف وفقا لأي قواعد أو أعراف سياسية تقليدية، عليهم أن يتوقعوا أن تكون 2017 أكثر غرابة وربما أكثر خطورة.



المواقف التقسيمية والمتشنجة والديماغوجية التي عبّر عنها ترامب خلال الحملة الانتخابية الطويلة، مثل الدفاع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتشكيك بصدقية الاستخبارات الأميركية، والتي حاول بعض مؤيديه نكران جديتها من خلال الادعاء بأن ترامب سوف يغير نبرته وأسلوبه الصدامي بعد الفوز بترشيح حزبه، أو بعد انتخابه، هذه المواقف إذا لم تتم معالجتها فورا، سوف تؤدي حتما إلى صدامات بين الرئيس الجديد والكونغرس الذي يهيمن عليه الحزب الجمهوري، ناهيك عن الديموقراطيين.



بعد شهرين من انتخابه، يمكن القول بيقين إن ترامب، البالغ من العمر 70 سنة، لن يغير من سلوكياته، أو أسلوبه في التواصل مع الآخرين من خلال التغريد، وإن نظرته إلى العالم وأخطاره لم تتغير أو تصبح أكثر تعقيدا، لمجرد أنه يتلقى بين وقت وآخر (وليس دوريا كما يفترض) الإيجازات الاستخباراتية. وهناك مخاوف جدية في الأوساط الإعلامية والقانونية والاستخباراتية من أنه إذا واصل ترامب هذه السلوكيات التي تقترب أحيانا من انتهاك القوانين فإنه سيجد نفسه ربما خلال أقل من سنة في مواجهة دعوات له بالاستقالة، وربما التلويح بمحاكمته كما جرى مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون.



ومنذ انتخابه، يواصل ترامب حربه على وسائل الإعلام الأميركية التقليدية التي تملكها شركات كبيرة، والتي تصدر صحفا نافذة مثل نيويورك تايمز، وواشنطن بوست ووال ستريت جورنال، وشبكات تلفزيونية ذات تأثير كبير على الرأي العام . ويرى بعض المراقبين أن ترامب من خلال حربه ضد كبريات الصحف وشبكات التلفزيون العملاقة، التشكيك بصدقيتها وسمعتها، للالتفاف المسبق على أي تحقيقات نقدية تنشرها أو تبثها وسائل الإعلام هذه حول أي انتهاكات للقوانين يكون ترامب أو شركاته قد ارتكبوها قبل وصوله إلى البيت الأبيض. وتتركز هذه الشبهات على احتمال حصول ترامب على أموال روسية كقروض لتمويل أعماله في السابق، الأمر الذي يمكن أن يفسر الودية المفرطة التي يتعامل بها ترامب مع بوتين.



انتقادات ترامب القاسية ضد الصحافيين والفنانين الذين يختلفون معه، تعكس أيضا شخصيته الاوتوقراطية وعدم اكتراثه بالتعديل الأول في الدستور والذي يضمن جميع الحقوق الشرعية للمواطن مثل حرية الرأي والتجمع والعبادة.



ولكن أكثر ما يثير استهجان واستغراب نواب وشيوخ من الحزبين والعديد من المحللين هو دفاع ترامب الحار عن الرئيس بوتين وتبرئته من التهم الموجهة إليه من جميع أجهزة الاستخبارات الأميركية من أنه أمر بالتدخل في الانتخابات. الرئيس المنتخب لجأ مرارا إلى الاستخفاف والسخرية العلنية بأجهزة الاستخبارات من خلال تغريداته التي يطلقها عادة في الصباح. ودائما يلجأ ترامب إلى تذكير العالم بإخفاق أجهزة الاستخبارات الأميركية من اكتشاف أسلحة دمار شامل في العراق قبل الغزو الأميركي في 2003. يوم الثلاثاء وصل استخفاف ترامب بأجهزة الاستخبارات الأميركية إلى أقصى درجاته في تغريدة مهينة جاء فيها أن (الإيجاز "الاستخباراتي" حول ما يسمى "الاختراق الروسي" قد تم تأخيره حتى الجمعة، ربما لأنهم بحاجة إلى وقت إضافي لبناء حجتهم. أمر غريب جدا).

ومن الواضح أن وضع كلمة الاستخبارات بين مزدوجين، يهدف للتقليل من جدية الاتهام، واستخدام عبارة ما يسمى "الاختراق الروسي" (وضعها أيضا بين مزدوجين) يبين أنه لا يوافق على هذه التهم. أما الإشارة الى أن تأخير الإيجاز الصحفي الى يوم الجمعة يثير الشكوك بعدم وجود قضية وحجج مقنعة تؤكد الاختراق الروسي، فهي إشارة غريبة لأن أجهزة الاستخبارات كانت قد حددت يوم الجمعة للاجتماع وليس قبل ذلك كما أوحى ترامب.



أما صباح الأربعاء فقد جلب تغريدة جديدة لا تقل سريالية أو سخرية عن سابقاتها، حين اقتبس ترامب ادعاء جوليان أسانج مؤسس مؤسسة ويكيليكس التي وزعت الوثائق التي تقول الاستخبارات الأميركية إن الاستخبارات الروسية سرقتها من البريد الإلكتروني للحزب الديموقراطي لتوزيعها بهدف إلحاق الضرر بالمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. وقال ترامب إن أسانج قد قال في مقابلة ودية مع شبكة فوكس إن مراهقا بعمر الرابعة عشرة قادر على اختراق البريد الإلكتروني لرئيس حملة كلينتون، جون بوديستا، مضيفا أن أسانج أضاف أيضا أن الروس لم يزودوه بالمعلومات. وهكذا، في تغريدة واحدة، أعلن ترامب أنه يقف عمليا مع أسانج ضد أجهزة الاستخبارات الأميركية بأجمعها، وفعل ذلك بشكل علني، ودفاعا عن رجل أصبح في السنوات الماضية رمزا للعداء للأميركيين، ومتناسيا أن أسانج هارب من بلاده السويد وهو لاجئ في سفارة الإكوادور في بريطانيا هربا من أمر باعتقاله قدمته حكومة السويد بتهمة الاغتصاب.



هذه الهجمات المتكررة ضد الاستخبارات الأميركية قد خلقت في هذه الأوساط حالة من الغضب والترهيب، لا يمكن أن تؤثر إلا سلبا على العلاقات المستقبلية بين الرئيس ترامب وهذه الأجهزة التي لا يستطيع أن يحكم البلاد وأن يدير السياسة الخارجية دون التعاون معها.

ومؤخرا قالت مصادر مقربة من الرئيس المنتخب إنه يعكف الآن على التعاون مع مساعديه لوضع خطة لإعادة هيكلة عمل هذه الأجهزة الاستخباراتية العديدة، بما في ذلك إعادة هيكلة وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي ايه) وتخفيض عدد موظفيها في مركزها الرئيسي في ضواحي واشنطن، وزيادة عدد العملاء في الميدان.



ترامب وأنصاره يقولون إن الرئيس المنتخب مستاء من السي أي ايه والاستخبارات بشكل عام ويتهمهم بمحاولة نزع الشرعية عن انتخابه، على الرغم من أن الديموقراطيين قد سلّموا بشرعية انتخابه. وهناك بدايات لمعارضة جمهورية لطروحات وسياسات وتصرفات ترامب في الكونغرس، كما يتبين من جلسات التحقيق التي سينظمها قريبا رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ جون ماكين بشأن الاختراقات والتجسس الروسي. وإذا استمر ترامب على مواقفه حتى بعد تنصيبه وحصوله على الإيجازات الاستخباراتية اليومية فإنه سيجازف عندها بخلق "حركة تصحيحية" في أوساط الحزب في الكونغرس بهدف "تخطي" ترامب بطريقة أو بأخرى.

علق هنا