المخابرات العراقية: من "كواتم" الإغتيال إلى ثقافة الإعتدال

بغداد- العراق اليوم:

أولاً: جهاز المخابرات العراقية في زمن (الاغتيال)

لا ننكر أن المخابرات العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين، كانت واحدة من أقوى وأشرس الأجهزة المخابراتية في المنطقة العربية ودول العالم الثالث أيضاً، حتى أن البعض وصفها بالمُنافسة للمخابرات المصرية. بعد أن اكتسبت خبرات فنية كبيرة، ونالت قسطاً تعليمياً أكاديمياً وتدريبياً استخبارياً مهماً على يد خبراء متخصصين من كوبا وألمانيا الشرقية ويوغسلافيا، وجهاز ال (كي جي بي) الروسي الشهير. وباتت كما يقول مؤيدوها: (مدرسة استخباراتية يتعلم فيها رجال المخابرات في العراق، وفي أجهزة الدول الصديقة للنظام البعثي فنون الردع والتعذيب والاغتيال)!

لكن السؤال الذي يجب طرحه دائماً، هو ماذا حققت المخابرات العراقية من مهام وإنجازات استخباراتية، ساهمت من خلالها في تحقيق نصر عراقي حربي، أو في ابتكار علمي، أو تفوق اقتصادي معين، يخدم مسيرة البلاد، ويحمي حقوق الشعب، مقارنة بأجهزة مخابراتية مقاربة، كجهاز الموساد، الذي كان له الفضل الأكبر في انتصار إسرائيل في حرب الخامس من حزيران عام 1967 على الجيوش العربية، وغير ذلك من المنجزات المخابراتية التي لا تعد ولا تحصى؟

والسؤال الآخر، هو لمصلحة من كانت تعمل المخابرات العراقية: لمصلحة البلد، أم لمصلحة النظام البعثي؟

 وإذا افترضنا أنها كانت تعمل لمصلحة البلد، فهل نجحت في عملها هذا، وهل خدمت مصلحة الشعب، وصانت أمن الوطن، وأسهمت بالحفاظ على سلامة البنى والمرتكزات والثروات والأرواح والكنوز والعقول البشرية العراقية، وهل استطاعت المخابرات العراقية طيلة وجودها وعملها الطويل مع كل ما صرف عليها من أموال طائلة، أن تحفظ للوطن وحدته، وللمواطن كرامته وحريته؟ والجواب سيكون: كلا!

بل سنجد العكس من ذلك فقد ساهمت المخابرات العراقية في العهد السابق بإضاعة الكثير من الحقوق العراقية، واشتغلت على قهر الكرامة والعزة الوطنية، كما نفذت بيديها الدمويتين عشرات العمليات التصفوية بحق شخصيات مناضلة، ومجاهدة، معارضة وغير معارضة، واغتالت بكواتم الصوت عقولاً مبدعة، وأسماء وطنية لامعة، سواء في داخل العراق، أو خارجه، وقد تم ذلك بأوامر قيادية عليا، لمجرد الشك في النوايا أو اختلاف في الرأي، أو لعدم رضا الدكتاتور، أو (زعل) أحد أفراد أسرته على هؤلاء المواطنين الذين خسروا حياتهم بطرق وحشية خالية من الرحمة والإنسانية.

والحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع، هي أن المخابرات العراقية السابقة أهملت الكثير من المهام التي تقع ضمن مسؤولياتها المهنية والوطنية، وتغافلت في لجة تفرغها للأعمال الوسخة عن واجباتها الأساسية، فكانت النتيجة هذا الخراب المدمر الذي ضرب العراق بقوة، وأعاده الى القرون الوسطى. فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن لنا التحدث عن فشل المخابرات العراقية في مواجهة الموساد بقضية تدمير مفاعل تموز عام 1981 ، حيت تمكن الموساد من اختراق جدار السرية الذي أستند اليه المسؤولون عن بناء المفاعل، من خلال تتبع خطوات المسؤولين عن البرنامج النووي العراقي، وتجنيد أحد العلماء العراقيين لمصلحة إسرائيل، دون أن تنتبه المخابرات العراقية لهذا الأمر، فكانت صدمة عنيفة، لم تدر رأس الدكتاتور فحسب، إنما أدارت أيضاً رؤوس الكثير من المشرفين على بناء جهاز المخابرات، وبناء المفاعل النووي العراقي أيضاً.  

هذا مثال واحد على أخفاقات المخابرات العراقية في موضوع الحفاظ على كنوز، وثروات، وممتلكات، وأنشطة العراق الاقتصادية، والعسكرية، والنووية الكبيرة. ولو أردنا الخوض في قائمة الإخفاقات الأخرى، لاحتجنا الى وقت ومساحة أكبر كي نتمكن من عرضها جميعاً.

أما في مجال تصفية واغتيال العراقيين في الخارج والداخل، فحدث بلا حرج..  ليس لأن قائمة الضحايا طويلة فحسب، بل لأن المبررات واحدة ومتشابهة، لا تتعدى أن تكون شكاً في الولاء، أو اختلافاً في الرأي، او خشية على كرسي السلطة. والعجيب في الأمر أن أغلب ضحايا المخابرات العراقية أشخاص مسالمون، ومختلفون عن بعضهم، حيث تجد فيهم الشيوعي، والإسلامي، والمستقل، والبعثي (نعم البعثي)! فهم شخصيات وطنية نجيبة سفح النظام دمها عن طريق ضباط مخابراته، كالشهيد الشيخ طالب السهيل والسيد محمد مهدي الحكيم والشيوعي الجامعي توفيق رشدي (أستاذ الفلسفة في جامعة عدن)، والصحفي اليساري عادل وصفي (خالد العراقي)، والطيار المعروف حردان التكريتي، والمناضل في صفوف الثورة الفلسطينية مطر لازم، وآية الله السيد حسن الشيرازي، وحليف البعثيين في انقلاب 17 تموز عبد الرزاق النايف، والطالبين نعمة مهدي محمد، وسامي عبد المهدي، اللذين كانا يدرسان في كلية الهندسة في جامعة كراجي بالباكستان، حيث اُختطفا على يد المخابرات العراقية بعد خروجهما من الامتحان النهائي للحصول على شهادة الماجستير في آذار عام 1987، وقد عثر على جثتيهما مقطوعة الرأس بالقرب من القنصلية العراقية.

كما قتلت المخابرات العراقية المناضل عبد الجبار عبدالله بطريقة بشعة، حيث قام عناصرها بخطفه في بيروت وحجزه داخل السفارة العراقية، ثم قاموا بتفجير جثته على عمود كهرباء في منطقة السفارة العراقية، إذ مازال اللبنانيون يتذكرون تلك الحادثة الشنيعة، رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على وقوعها.

حتى أفراد المخابرات العراقية أنفسهم لم يسلموا من أذى ودموية جهازهم، فها هو ماجد عبد الكريم حسين ضابط المخابرات السابق، ينال ما ناله غيره من قتل، وتقطيع، فقد شملته التصفية الجسدية المخابراتية عام 1985 في السويد، بعد أن تم استدراجه الى احدى الشقق، التي كان فيها عنصران من المخابرات العراقية ينتظرانه، فقاما بقتله، وتقطيعه الى 48 قطعة، ثم قاما بوضعه في حقيبتي سفر، وقد عثر على هاتين الحقيبتين بعد مرور شهرين على الجريمة.

هذا هو بعضٌ من (سفر) جهاز المخابرات العراقية (الخالد) في عهود البعث، والمصيبة التي يفخر بها البعثيون، أن أحد ضباط المخابرات العراقية، ينقل عن المجرم برزان التكريتي - عندما كان رئيساً لهذا الجهاز - قوله:

 "يكفينا فخراً أن المعارض العراقي الموجود في أحد مقاهي باريس أو براغ، يلتفت يميناً أو شمالاً عندما ينتقدنا خوفاً من وجود ضابط مخابرات عراقي بجانبه."

ومع كل هذه الفظائع، فإن ثمة الكثير من العراقيين مازال يتحدث للأسف عن ذلك الجهاز بفخر، دون أن يلتفت للكوارث التي أرتكبها بحق الوطن والشعب، وبحق الناس الأبرياء الذين سحقهم بلا رحمة، وبحق الخزينة العراقية التي فتحت بسخاء للصرف على هذا الجهاز الدموي، البائس، والفاشل.

ثانياً: المخابرات العراقية الجديدة، وثقافة (الإعتدال)

واليوم، وبعد أن رحل النظام الدكتاتوري، وسقط معه جهاز المخابرات القمعي، ليحلَّ محله جهاز مخابرات وطني مختلف شكلاً ومضموناً عن ذلك الجهاز، يتوجب علينا أن نعرف بعضاً عن أداء هذا الجهاز الجديد، الذي يعمل بأساليب، ورؤى، ونظريات مختلفة عن رؤى الكثير من الأجهزة المخابراتية في المنطقة، ويشتغل بأداء شفاف يتقاطع مع أداء وأساليب الجهاز السابق تقاطعاً قيمياً، ووطنياً، وفنياً وأخلاقياً خالصاً. فلغة الجهاز الجديد للمخابرات العراقية هي اليوم لغة واضحة، وسهلة، ومفهومة، لا صعوبة فيها، ولا مطبات، أو التواءات تأخذها الى لغات أخرى. ولعل الأمر الأهم في سلوكية هذا الجهاز أن طرق عمله تتسم بالصبر، والنفس الطويل، حتى الوصول الى محطة الحقيقة، دون أن يختصر ذلك بإطلاقة واحدة أو أكثر من مسدس كاتم للصوت، حيث كان يحل جهاز المخابرات السابق مشاكله مع خصومه دائماً.

فاليوم يعتمد جهاز المخابرات العراقي أسلوب الاعتدال ثقافة ومنهجاً، بدلاً عن أسلوب التشدد، والتطرف، والعنف، والاغتيال، ويرسم طريقاً شفافاً جديداً من أجل الوصول الى الحقائق، بعيداً عن ومفاهيم أحواض التيزاب، وسموم الثاليوم، وتكسير وتهشيم العظام، والاغتصاب الجماعي، والمقابر الجماعية، وأساليب القتل الفظ الوحشي عبر استخدام القنابل التي تكفي لتفجير جبل وليس إنساناً واحداً فقط، كان ذنبه أنه خارج عقيدة، ومزاج النظام، ناهيك عن أساليب الترهيب، والتسقيط، وملاحقة المعارضين والتجسس عليهم حتى لو كانوا في آخر بقاع الأرض.

وأمس، كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن الفوارق الكبيرة بين جهاز مخابرات برزان، وما تلا برزان في حكم البعث، وبين مخابرات العراق الديمقراطي الحالي، لكني فوجئت بصديقي يقول لي بتهكم واضح: أين هو جهاز المخابرات الجديد؟ قلت له: إنه موجود!

قال: أين هو، وأين أعماله، وماذا فعل، وأنجز طيلة السنوات الماضية، خصوصاً في ظروف حربنا ضد الارهاب، حيث تضرب المدن العراقية بقسوة كل يوم، دون أن يستطيع جهاز المخابرات العراقي إيقاف هذه الاعتداءات؟

قلت له - وأنا أحاول أن أبسط الموضوع - أن جهاز المخابرات جهاز أمني، استخباري سري، وهو قطعاً ليس مثل دوائر أمانة بغداد، أو السياحة، ليعلن عن مشاريعه، ولا هو شركة مقاولات ليعمل دعاية واعلانات لمنجزاته. لذلك، فإنك لن تجد أحداً في هذا الجهاز يقول لك يوماً: (إننا قمنا بالعمل الفلاني أو العمل العلاني) لكني أعرف من خلال متابعتي – كصحفي – أن هذا الجهاز يقوم بأعمال باهرة دون أن يعلن عنها، فهو يفشل الكثير من المخططات الارهابية، خارج الحدود وداخلها. دون أن يعرف الجمهور بهذه الأعمال، كما يجهض عشرات الاعتداءات، ويفكك العديد من الخلايا النائمة، ويسقط الكثير من العصابات دون ضجيج، ويشتغل في العمق الإرهابي، فهو موجود حتى في مقرات (الخلافة) بالموصل.. وله دور كبير في إيصال الاحداثيات الدقيقة للقوات العراقية والأمنية عن أهم المواقع الداعشية.

وجهاز المخابرات الوطني العراقي لم يعلن مثلاً عن احباطه قبل أيام قليلة، لمخطط هجوم إرهابي لتنظيم داعش، كان يستهدف قاعدة (انجر ليك) العسكرية الحساسة جنوب تركيا، ولولا إعلان المركز الإعلامي للسلطة القضائية في العراق عن هذه العملية المخابراتية العراقية الفاخرة لما سمعنا بها قط، وأقصد بها عملية اعتقال، بل واختطاف الإرهابي الخطير (أبو أسامة) من مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول بعملية نوعية ليسلم بعدها لمحكمة التحقيق المركزية في بغداد. وقد يسأل البعض عن علاقة العراق بقاعدة أنجرليك التركية، والجواب: أن من هذه القاعدة تنطلق طائرات التحالف الدولي لمرافقة القوات العراقية المتوغلة في العمق المعادي سواء في الموصل، او تكريت، او الفلوجة قبل تحريرها، فضلاً عن ضربها أهداف ومواقع داعشية خطيرة.

وحتماً فإن هناك عمليات نوعية أخرى تمت بنجاح ساحق على يد جهاز المخابرات الوطني العراقي، لا أستطيع ذكرها جميعاً، فأنا لست مخولاً بذلك.

لكني أستطيع مثلاً ذكر عملية اعتقال القيادي البارز في حزب البعث المنحل عبد الباقي السعدون، في 26 حزيران عام 2015 في مدينة كركوك، وهي عملية خطيرة جداً، لكنها كانت عملية نظيفة، وذكية، وماهرة، وقد أدين السعدون بعد اعتقاله من قبل القضاء العراقي، وحكم عليه بالإعدام لارتكابه جرائم بحق الشعب العراقي، فضلاً عن قيادته فصائل بعثية، ارهابية مسلحة، بعد سقوط النظام البائد.

أما اتهام جهاز المخابرات العراقية بعدم تمكنه من إيقاف التفجيرات الإرهابية في بغداد والمدن العراقية، فهو اتهام ظالم فيه الكثير من التجني.

 لأن طبيعة الإرهاب، وامتداداته، وقدرته على الضرب في مختلف دول العالم، وفشل أجهزة مخابرات عالمية، لها خبرات، ومؤهلات، وإمكانات، وظروف أفضل من ظروف المخابرات العراقية في منع فايروسات الارهاب من الوصول الى أهم مراكز أوربا وامريكا وتركيا، وغيرها، كما حدث في باريس، وإسطنبول، وبرلين قبل أيام قليلة ناهيك عن طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية المعقدة في العراق التي تبرء ساحة المخابرات العراقية من أي اتهام.

إننا لا نقول أن جهاز المخابرات العراقي الحالي هو جهاز نموذجي، وسليم مائة في المائة، وأن عناصره أشبه بالملائكة، لأننا نكون قد أضررنا به دون أن ننفعه، خاصة وأنه جزء من المنظومة السياسية والادارية في البلاد، فهو يضم مثل غيره من الأجهزة الحكومية بعض العناصر القادمة من تحت عباءة المحاصصة، أو المحسوبية والمنسوبية، لكن الشيء المفرح، أن هذه العناصر قليلة جداً في جهاز المخابرات الحالي.

أن هذا الجهاز الذي أسسه عام 2004 الضابط العسكري محمد الشهواني، وهو الرياضي العراقي المعروف سابقاً باسم محمد عبد الله، صاحب الرقم القياسي العراقي بالقفز بالزانة، تمكن من التحليق بعصا الانتماء الوطني فوق حواجز الطائفية والحزبية، واضعاً له أسس، ومبادئ، وقياسات وطنية وديمقراطية شفافة، خاصة وأن الشهواني هو أب لثلاثة أولاد أعدمهم صدام سوية في مبنى جهاز المخابرات نفسه، نكاية بأبيهم المعارض لنظامه الدكتاتوري.

 ومن الجدير بالذكر أن هذا الجهاز الذي تعرض لهزات بنيوية، وتنظيمية بعد خروج الشهواني منه عام 2009، تمكن من العودة الى منهجه التنظيمي، والديمقراطي، والمهني الإبداعي السابق، بل وبشكل أقوى، بعد تسلم الشخصية المثقفة مصطفى الكاظمي زمام قيادة الجهاز. حيث يمكن لنا ملاحظة ذلك بسهولة.

ختاماً، نقول: إن جهاز المخابرات الوطني العراقي (جهاز الاعتدال)، المختلف كلياً عن جهاز المخابرات السابق (جهاز الاغتيال)، يقدم اليوم صورة ناصعة، لرجل المخابرات في الزمن الديمقراطي الجديد، فهو يؤدي دوره بشكل طيب وجيد، قياساً الى الظروف التي يعيشها البلد وتعيشها المنطقة. فهذا الجهاز المكتنز بالوطنية، والمترع بالانتماء الإنساني، والمعَّد لخدمة المجتمع، وحماية المواطن، يحتاج منا جميعاً التعاون، والدعم، والأسناد. فهو اليوم يختلف -كما قلنا -عن جهاز برزان القمعي، وعليه فإنه بحاجة لنا، ولتأييدنا، فالأمر بات اليوم مشرفاً، وغير مخجل قط، لمن يقدم دعماً، وإسناداً له، لأنه باختصار (جهاز مخابراتنا الوطني)، وليس جهاز مخابرات عدونا!

علق هنا