بعد أن بلغ التسعين، من هو القادم بعد السيستاني .. أهو الفياض، أم النجفي -وهما الأعلمان- أم الحكيم، وهو الأشجع والعراقي الوحيد فيهم؟

بغداد- العراق اليوم:

يُرجح المراقبون لتاريخ الحوزة الشيعية في العراق ألا تكون الأمور هينة عندما يحين الوقت لاختيار المرجع الأعلى المقبل للشيعة الإثني عشرية في العراق والعالم، الذي يزيد عددهم على 200 مليون مسلم، وذلك بالرغم من الإرث الطويل لها في تثبيت قواعد السلوك الخاصة بالاختيار، التي تنصّبُ على "الأعلم والأشجع والأكثر إخلاصاً وقدرة على الاجتهاد".

 مشهدٌ يزداد تعقيداً مع تدفق وتسارع الأحداث التي يشهدها العراق الملتهب، الذي أقحم المرجعية عنوةً في خضم إقليم غير متوافق أبداً في عصر النفط والطاقة وتشابك مصالح العالم على أرضه. ووسط بيئة مشتعلة منذ زمن بعيد.

النجف حيث يرقد الامام علي

تتخذ المرجعية من النجف المدينة المقدسة لوجود مرقد الامام  علي بن أبي طالب، الذي يعدُ إمام الشيعة الأول. ولطالما وجدت المرجعية نفسها أمام معادلة التوازن لأن تكون الناصح الأمين في المواقف السياسية من دون الانسحاب منها كلياً.

كما أكد رئيسها علي السيستاني الذي شهد أحداثاً جساماً، منذ سقوط نظام صدام حسين في أبريل (نيسان) عام 2003، وتعرضه أخيراً لكسر أثناء وضوئه وخضوعه للعلاج في مدينة النجف من طاقم طبي عراقي.

من البديل؟

حادث السيستاني الأخير فتح الباب أمام مناقشة من هو البديل لرئاسة هذه المؤسسة المهمة؟ خصوصاً أن رئيسها بلغ العقد التاسع من عمره (منحه الله الصحة) فالغالبية العظمى من العراقيين يصفون الرجل بصمام الأمان لوأده الفتن الطائفية التي كانت ولا تزال أداة فعالة لأطراف الإسلام السياسي في العراق وخارجه، وكان السيستاني يسعى إلى منع الصِدام والحؤول دون الحرب الأهلية التي جرّت إيران وأحزاب السلطة المجتمع لأوامرها لمصالح مكشوفة.

المراجع الثلاثة القريبة

ثلاثة مراجع كبار حول السيستاني، هم إسحاق الفياض (أفغاني الأصل) وبشير النجفي (باكستاني الأصل) ومحمد سعيد الحكيم (عراقي)، وهو الأشجع - وكلهم يحملون صفة آية الله -، واتخذوا من النجف مقاماً ومستقراً تقرباً لمرقد علي بن أبي طالب أولاً، وللدرس في الحوزة النجفية التي تغص بآلاف طلبة الحوزة الشيعية التي يؤمها الآلاف منهم سنوياً، إذ ازدادت أعدادهم بشكل كبير بعيد سقوط النظام السابق، وتوسع شواغل تلك الجامعة الدينية والخدمات التي تقدمها وملايين الزائرين إليها طيلة العام لزيارته وكربلاء اللصيقة بها حيث مرقد شهداء كربلاء الإمام الحسين بن علي سبط الرسول الأعظم وأخيه العباس نجل علي رضي الله عنهم أجمعين.

 هذا الواقع الذي تعيشه النجف يمثل تطوراً استثنائياً له نتيجة مدخلات ومخرجات متسارعة في حياة هذه المدينة المنقسمة بين عروبتها وعالميتها فهي من جانب مدينة عراقية تحكم بقوانين الدولة العراقية، ومن جانب آخر تطورت مرجعيتها لتكون لكل المسلمين الشيعة في العالم، لاسيما الدولة المجاورة إيران ذات المشروع الإسلامي التي تعادل ما يقرب أربع مرات مساحة العراق ومرتين بعدد السكان، وتشترك مع العراق بحدود تبلغ 1300 كيلو متر، وخاضت حرباً ضروساً مع العراق لثماني سنوات 1980- 1988، ولديها مرجعية خاصة بها، ومشروعاً شيعياً يُحكم بنظام (ولاية الفقيه) المختلف كلياً عما يؤمن به العراقيون وأتباع مرجعيتهم.

هذه وسواها تُعقّد مشهد اختيار المرجع الأعلى مستقبلاً، فالعرب يرغبون - برغم إجلالهم وتقديرهم للمرجع السيستاني- بعودة المرجعية إلى محمد سعيد الحكيم، سبط المرجع محسن الحكيم الذي توفاه الله في سبعينيات القرن الماضي. وثمة من يجد أن نظام المرجعية يتوافق مع شرط الأعلمية المتمثل في بشير النجفي وإسحاق الفياض، المؤهلين أيضاً لهذا الترشح.

لكن ما يزيد الأمور تشابكاً، ماكنة الدعاية التي تثيرها الأحزاب الشيعية أمثال حزب الدعوة الإسلامي الذي له مراجع من نسيجه السياسي، على غرار كاظم الحائري (إيراني الأصل)، ومحمود الشاهرودي (إيراني) وكلاهما من مؤسسي حزب الدعوة، ولكنهما يتبعان ولاية الفقيه التي لا تتماشى والمرجعية العراقية في النجف التي اتخذت من أسلوب النأي بالمرجعية من السياسة، وتكريس حالة الديمومة بالعلم والبحث المعرفي واعتماد التبليغ نمطاً لإدارة التواصل مع شيعة العالم، معتمدين على منهج الإمام جعفر الصادق الحفيد الرابع للأمام علي بن أبي طالب، الذي يقول، (والله لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب ألا يقبلوه، فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً أستعيذ بالله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم. وأشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله، وما معي براءة من الله، إن أطلعته رحمني وإن عصيته عذبني عذاباً شديداً أو أشد عذابه".

وهذا يجب ُولاية الفقيه التي أطلقها الخميني عام 1979 ورفضتها مرجعية النجف التي تؤمن بلا شرعية إعلان الدولة في فترة الغياب، فكيف تأسست هذه المرجعية؟ ولماذا انتقلت من بغداد إلى النجف؟

بواكير تأسيس المرجعية

تأسست المرجعية الدينية الشيعية في بغداد في منطقة عكبري، أحد أمصار العاصمة العباسية على يد الشيخ العربي المفيد المعروف بابن المعلم عام 413 هجرية، وكانت مدرسة علم تدرس صروف المذهب الشيعي وأصوله واجتهاداته بعد أن طغت مدرسة الرأي والاجتهاد على مدرسة الانتظار للإمام الغائب وتخطي نظرية الإمامة الدينية لأهل البيت التي سادت قروناً. وجاء توافق ذلك التأسيس في فترة تلت وفاة السفراء الأربعة للإمام محمد المهدي آخر الأئمة المعصومين لدى الشيعة الأمامية الذي غاب في عام 329 هجرية التي يطلقون عليها (الغيبة الكبرى)، وينتظر الشيعة الإمامية تعجيل فرجه بالظهور لينشر العدل بين الناس في آخر الزمان، فبعد انقضاء عهد السفراء الأربعة الذين أمنوا التواصل بينهم وبين الإمام المهدي ابن الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر للشيعة الأمامية، ليبدأ دور مراجع الدين في تثبيت الأحكام الدينية والفتاوى الشرعية من قبل العلماء الثقاة الذين تصدوا للمرجعية ممن يبلغون رسالة الإمام المهدي حسب التقليد الإمامي.

انتقال المرجعية إلى النجف

وبعد وفاة الشيخ المفيد انتقلت المرجعية الدينية إلى النجف اللصيقة بالكوفة التي أوعز ببنائها الخليفة عمر بن الخطاب 16 للهجرة وقبلها بسنتين بناء البصرة، لتكون أول المدن العربية التي يبنيها المسلمون العرب، وزادت قيمة الكوفة حين انتقل إليها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ليحيلها إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، مبتعدا ً عن الفتنة الكبرى التي حدثت إثر مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وإذ ذاك زادت قيمة النجف والكوفة وتحولت إلى مركز تجاري وبيتاً للعلم والاجتهاد الفقهي، فقد أعاد تأسيسها عام 447 هجرية العالم محمد بن الحسن الطوسي الملقب بـ"شيخ الطائفة" بعد فتنة وصراع بين البويهين أتباع الشيعة الزيدية والسلاجقة الشافعيين الأشعرية، بهدف سحب المراجع الدينية المتعلمة بعيداً عن الفتن بين هؤلاء وأولئك، ومن إدراك بأن السياسة طارئة والديانة ثابتة كما يقول أحد الباحثين العراقيين، حتى استحالت النجف إلى مركز علمي، وجامعة للفقه الأمامي الذي يدرس إرث واجتهاد الأئمة من آل البيت الإثني عشرية، وتحولت إلى مزار للعالم الإسلامي يفد إليها الدارسون للمذهب الشيعي.

حوزة إيران في القرن العشرين

وبعد أكثر من ثمانية قرون ونصف القرن قامت حوزة قم في إيران بتاريخ 1937 على يد عبد الكريم الحائري، وتولى أكثر من خمسين مرجعاً منزلة كبار المراجع الشيعية ، آخرهم علي السيستاني، على أن يقيم المرجع الديني الأعلى في النجف التي نالت مجدها وقيمتها من وجود مقام وضريح علي، وكانت الحوزة الدينية إحدى علاماتها المميزة كجامعة تدرس الفقه والآداب العربية، ومن أهم مراجعها الذين ذاع صيتهم في العراق والعالم الاسلامي خمسين مرجعاً شكلت الأحداث الجسام التي واجهتهم تحديا لقدراتهم المعرفية، ولاستقلالية قرارهم السياسي المبني على فكر حوزوي مستقل.

الحوزة مركز الفكر وليس السياسة

ولم تكن الحوزة المدرسة الدينية مركز نزاع فكري أو طائفي في زمن مؤسسها الشيخ المفيد والشيخ المرتضى، إلا بعد النزاع المذهبي في زمن السلاجقة والبويهيين الذين تقاتلا على مدّ النفوذ في العراق، لاسيما إثر دخول الأعاجم فيها من غير العرب الذين أذكوا الروح الطائفية وحولوا تلك المؤسسة البحثية رويداً رويدا إلى مؤسسة سياسية بامتياز.

وبالرغم من تأسيس حوزات أخرى في العالم الاسلامي ظلت حوزة النجف علامة مشرقة لدراسة علوم اللغة والآداب العربية ومركزا فكريا ومعرفيا، واحتلت مكانة في كونها خرّجت فطاحل الشعراء والكتاب والمحققين العرب والأعاجم ممن درسوا فيها.

لم تكن هناك نية لمؤسسيها وعلمائها أن تتحول إلى مركز للصراع السياسي بل أرادوها في مرحلة لاحقة أن تكون بمثابة الأزهر الذي أسسه الفاطميون لاحقاً منارة للعلم في المشرق العربي لتدريس أصول الدين وفق الرؤية المعروفة، ولولا المكانة التي تمثلها تلك المرجعية والعواصف الهوجاء والصراع الذي شهدته خلال ما يقرب من ألف عام لما تمكنت من التواصل.

وكانت معايير اختيار المراجع غير مقيدة بجغرافيا السكن والأصول القومية والطائفية، فقد تنوعت مناشئ كبار المراجع على أرومات متباينة عربية وأعجمية تبعاً لمعايير ثلاثة عند القبول والترشح والتكليف تلخص بـالأعلمية، والتقليد، والاحتياط بأن ينحو طريق الحيطة في جميع أعماله.

تحديات المرجعية

تباينت التحديات التي جابهت حوزة النجف وزعامتها من نواح عديدة خلال عشرة عقود خلت، على رأسها اختلاف الرؤية بين أن تكون مؤسسة فكرية علمية تنحو منحى التدريس والتبليغ الديني بفكرها المعروف أو يكون لها دور تنويري سياسي لإيقاظ المجتمع وتبني أزماته والتصدي لمفاسده التي يعانيها العامة، فقد لعبت دورا ً سياسياً منذ مطلع القرن الماضي، وأسست بشكل وآخر منظمات سياسية وسرية لاسيما في العراق، ودعمت الحركات الدستورية كما في إيران.

الثورة الايرانية.. مفترق طرق

وزاد ذلك الدور بعد الثورة الإيرانية الخمينية التي أسست الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي واجهت رفضاً لتلك التسمية التي أطلقها السيد الخميني من قبل المرجع شريعتمداري، كما يؤكد الباحث إياد جمال الدين. فثورة إيران عمدت إلى تحويل المرجعية والطائفة إلى مشروع دولة تتعارض مع تحريم الفقهاء الأمامية للعمل السياسي وإقامة الدولة في عصر الغيبة لقرون طويلة الزمن حسب نظرية الانتظار للإمام الغائب) وفق المفكر الشيعي أحمد الكاتب الذي يرى أن ولاية الفقيه التي نادى بها السيد الخميني تفرض على الناس الإيمان بأن ولاية الفقهاء تأتي من الله عز وجل تماماً كولاية الرسول والأئمة من آل البيت وأنها ولاية دينية إلهية، على حد قوله في كتابه الحكومة الإسلامية.

مرجعية السيستاني

ولا تقر المرجعية الشيعية في النجف ممثلة بالمرجع الأعلى علي السيستاني بفكرة ولاية الفقيه التي تقرها إيران - الخميني وخامنئي من بعده - رغم أنها لا تقتصر على أفضلية الفقيه العالم على الجاهل أو المتقي على الفاسق الظالم ولكنها تبرز معنى "الفقيه" هل هو الفقيه بالأحكام الشرعية من الصلاة والصوم والحج وما شابه؟ أم هو المتخصص والخبير في الإدارة والسياسة والاقتصاد مما تحتاج إليه إدارة الدولة الحديثة؟ تكمن المشكلة كذلك في الشرعية الدستورية كما يرد المفكر أحمد الكاتب في كتاب "التشيع السياسي والتشيع الديني".

الخلافات بين المراجع

من هنا تبرز قيمة الخلاف بين المراجع الذين يعيشون اليوم في خضم الصراع السياسي الذي يجعل المرجعية عموما ًفي موقف لا تحسد عليه، حين تتقاطع النيران بين البلدان من حولها، كما تقاطعت إبان الحرب العراقية - الإيرانية بين خطابين وماكنتين تخطت العمل العسكري إلى صراع الوجود وراح ضحيته كبار العلماء ممن اشتغلوا بالسياسة من أنظمة تقاتل بعضها، ولكن هناك من رجحوا التقية والانصراف لعلوم الدين على العمل السياسي،  كما عمد إليها بعض المراجع كالخوئي وخلفه علي السيستاني، الذي فضّل الاعتكاف للعلم والبحث والفقه، وليس للسياسة متبعا فتاوى الإمام جعفر الصادق الذي كان يدعو عالم الدين ألا يمارس السياسة وهي نوع من خلاص من تهلكة الدنيا وشراء الآخرة.

الاحتجاجات الشعبية ونصائح السيستاني

السيستاني الذي آثر النأي بالنفس وعدم زج المرجعية بالعمل السياسي، اضطرته الظروف التي شهدها العراق أخيراً إلى التدخل كل يوم جمعة من أجل إبلاغ الناس بحقيقة موقفه من حكومة فاسدة تقتل المحتجين من دون رحمة ورفع عنها الدعم والرعاية حتى سقوطها، لكنه اكتفى بالنصح وعدم التدخل المباشر، ويتخوف الكثيرون من غيابه بعد إصابته الأخيرة كونه صمام الأمان للمجتمع العراقي الذي يعاني كماشتين تتمثلان في النفوذ الإيراني من جهة والفساد الذي ترعاه الميليشيات التي تعتمد أسلوب التقليد المتبع في ولاية الفقيه.

هل تدخر المرجعية مرشحها؟

توالت المراجع على زعامة المرجعية الشيعية في النجف خلال قرن من الزمان، سيطروا خلاله على عقول وقلوب شيعة العراق والعالم، والمرجعية كمؤسسة بلغ عمرها ما يقرب من ألف عام فإنها دوماً ما تختزن البدائل الكفء لإشغال المنصب، فهناك المراجع الثلاثة المؤهلين لزعامة المرجعية بعد عمر طويل للسيستاني إلا أن التحدي يكمن في مسألتين، الأولى تقارب أعمارهم مع عمر السيستاني فجلهم بين العقد الثامن والتاسع من العمر، والمسألة الثانية تباين وجهات النظر الحاد بفعل تناقض عمل الأحزاب ومخرجاتها والاتهامات الكبيرة فيما بينها والمال السياسي الذي أدرك أصحابه وأحزابه بأن موقع المرجع الأعلى تعدى الأطر التقليدية في زمن يسيطر فيه رجل الشارع على رجل السياسة، على حد وصف العالم المصري حامد ربيع، إضافة إلى متغير خطير وهو تسلم الأغلبية الشيعية الحكم في العراق الذي تطلعوا إليه منذ 1400 عام، وهذا يمنحهم مقدرات دولة يلجأ فيها الساسة إلى الحماية من إيران التي تلوح دوماً بأنها الدولة الراعية لشيعة العالم، وهذه مغالطة أثبتت الأحداث الأخيرة في العراق سقوطها المدوي.

علق هنا